الفلك

تيتان: هل يمكن أن يكون هذا القمر نسخة مستقبلية من الأرض؟

اكتشف أسرار القمر الوحيد في النظام الشمسي الذي يملك غلافاً جوياً كثيفاً ودورة مناخية كاملة

بقلم: د. ياسر النجار، عالم فلك وباحث في علوم الكواكب بخبرة 15 عامًا في دراسة أقمار النظام الشمسي الخارجي.

في أعماق نظامنا الشمسي، وعلى بُعد أكثر من مليار كيلومتر من الأرض، يدور قمر غامض يثير فضول العلماء منذ عقود. إنه ليس مجرد قمر عادي، بل عالم كامل يحمل خصائص تجعله نافذة فريدة لفهم ماضي كوكبنا وربما مستقبل البشرية في الفضاء.

المقدمة

لقد كان اكتشاف تيتان في عام 1655 على يد الفلكي الهولندي كريستيان هويجنز (Christiaan Huygens) نقطة تحول في فهمنا للنظام الشمسي؛ إذ أدرك العلماء لاحقاً أن هذا القمر التابع لكوكب زحل يختلف جذرياً عن جميع الأقمار الأخرى. فقد أظهرت الدراسات اللاحقة أن قطره يبلغ حوالي 5150 كيلومتراً، مما يجعله ثاني أكبر قمر في النظام الشمسي بعد غانيميد (Ganymede) التابع للمشتري، وهو أكبر حتى من كوكب عطارد نفسه.

كما أن ما يميز تيتان حقاً ليس حجمه فقط، بل تلك الخصائص الاستثنائية التي تجعله يحاكي الأرض بطرق مدهشة. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود غلاف جوي كثيف وبحيرات سائلة وأنماط جوية معقدة جعله هدفاً علمياً بالغ الأهمية. أتذكر جيداً حين حضرت مؤتمراً علمياً في باريس عام 2017، حيث عرض أحد الباحثين صوراً مذهلة من بعثة كاسيني-هويجنز، وشعرت وقتها بأننا نشاهد عالماً موازياً لكوكبنا، لكن في ظروف مختلفة كلياً.

ما الذي يجعل تيتان مميزاً عن بقية الأقمار؟

إن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يحظى هذا القمر بكل هذا الاهتمام بينما يدور حول الكواكب مئات الأقمار الأخرى؟ الإجابة تكمن في مجموعة فريدة من الخصائص التي لا تجتمع في أي جرم سماوي آخر. فتيتان هو القمر الوحيد في نظامنا الشمسي الذي يمتلك غلافاً جوياً كثيفاً ومستقراً، وهذا الغلاف ليس رقيقاً كما في حالة قمر الأرض أو بعض الأقمار الأخرى، بل إنه أكثر كثافة من غلاف الأرض الجوي نفسه عند السطح. لقد أظهرت القياسات أن الضغط الجوي على سطح تيتان يبلغ حوالي 1.5 ضعف الضغط الجوي الأرضي عند مستوى سطح البحر؛ إذ يتكون بنسبة 98.4% من النيتروجين، تماماً كما هو الحال في غلافنا الجوي.

من ناحية أخرى، فإن تيتان يمتلك دورة هيدرولوجية كاملة شبيهة بدورة الماء على الأرض، لكن بسائل مختلف تماماً. فبدلاً من الماء، تسقط الأمطار من الميثان (Methane) والإيثان (Ethane) السائلين، وتتشكل السحب، وتجري الأنهار، وتتجمع البحيرات والمحيطات من هذه الهيدروكربونات. وكذلك يوجد على سطحه كثبان رملية تمتد لمئات الكيلومترات، وجبال يصل ارتفاعها إلى أكثر من 3000 متر. هذا التنوع الجيولوجي والمناخي يجعل من تيتان مختبراً طبيعياً لدراسة العمليات الكوكبية التي ربما كانت تحدث على الأرض المبكرة قبل مليارات السنين.

كيف يشبه تيتان كوكب الأرض في تكوينه؟

عندما ننظر إلى تيتان من منظور جيوكيميائي، نجد تشابهات مذهلة مع الأرض البدائية. فهل يا ترى يمكن أن يكون هذا القمر نموذجاً مصغراً لما كانت عليه أرضنا قبل ظهور الحياة؟ الكثير من العلماء يعتقدون ذلك. إن الغلاف الجوي الغني بالنيتروجين والمركبات العضوية المعقدة يشبه إلى حد كبير الغلاف الجوي الأرضي قبل حوالي 4 مليارات سنة، قبل أن تبدأ الكائنات الحية في إنتاج الأكسجين. وبالتالي، فإن دراسة تيتان تمنحنا فرصة فريدة لفهم كيف نشأت الحياة على كوكبنا.

التركيب الداخلي لتيتان يضيف بُعداً آخر لهذا التشابه. فقد كشفت بيانات مسبار كاسيني (Cassini) أن هذا القمر يتكون من طبقات متعددة: نواة صخرية في المركز بقطر يقدر بحوالي 3400 كيلومتر، محاطة بطبقة من الجليد المائي عالي الضغط، ثم طبقة من المياه السائلة المالحة تحت السطح بعمق يتراوح بين 55 إلى 80 كيلومتراً. هذا المحيط الجوفي قد يحتوي على أملاح الأمونيا والكبريتات، مما يجعله بيئة كيميائية معقدة. انظر إلى التشابه: كوكب الأرض أيضاً يحتوي على محيطات ونواة صخرية معدنية وقشرة خارجية، وإن اختلفت التفاصيل.

ما هو تركيب الغلاف الجوي لتيتان وكيف يعمل؟

الغلاف الجوي لتيتان يُعَدُّ أحد أكثر الأغلفة الجوية تعقيداً في النظام الشمسي بأكمله؛ إذ يمتد لمسافة تزيد عن 600 كيلومتر فوق السطح. لقد أظهرت التحليلات الطيفية أن التركيب الكيميائي لهذا الغلاف يشمل النيتروجين بنسبة تفوق 98%، يليه الميثان بنسبة تتراوح بين 1.4% إلى 5.65% في الطبقات السفلى، بالإضافة إلى كميات ضئيلة من الهيدروجين، والإيثان، والأسيتيلين (Acetylene)، والبروبان (Propane)، وغيرها من الهيدروكربونات المعقدة. فما هي العمليات التي تحافظ على هذا الغلاف الجوي؟

الجواب يكمن في كيمياء ضوئية (Photochemistry) معقدة للغاية. إن الإشعاع الشمسي فوق البنفسجي، رغم ضعفه على هذا البعد من الشمس، يتفاعل مع جزيئات الميثان والنيتروجين في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، مما ينتج عنه سلسلة من التفاعلات الكيميائية التي تشكل مركبات عضوية معقدة تُسمى الثولينات (Tholins). هذه المركبات البرتقالية المحمرة هي التي تعطي تيتان لونه المميز عندما ننظر إليه من الفضاء. بينما تشكل هذه المواد العضوية ضباباً كثيفاً يحجب الرؤية الواضحة للسطح من الأعلى، فإنها في الوقت نفسه تحمي السطح من الإشعاعات الضارة.

هل توجد بحيرات ومحيطات حقيقية على سطح تيتان؟

نعم، وهذا ما يجعل تيتان الجرم الوحيد بعد الأرض الذي نعرف بوجود سوائل مستقرة على سطحه. لكن انتبه: هذه ليست بحيرات مائية كما نعرفها؛ إذ تتكون من الميثان والإيثان السائلين بسبب درجات الحرارة المتجمدة التي تصل إلى حوالي -179 درجة مئوية. فقد كشفت بعثة كاسيني-هويجنز عن وجود مئات البحيرات والبحار في المناطق القطبية الشمالية لتيتان، أكبرها بحر كراكن (Kraken Mare) الذي تبلغ مساحته حوالي 400,000 كيلومتر مربع، أي ما يقارب مساحة بحر قزوين على الأرض، وعمقه يتجاوز 300 متر في بعض المناطق.

اقرأ أيضاً  الأبراج السماوية: رحلة عبر التاريخ وعلم الفلك والثقافات

خصائص البحيرات والمحيطات على تيتان:

  • التركيب الكيميائي: تتكون بشكل أساسي من الميثان (50-70%) والإيثان (20-40%) مع نسب صغيرة من البروبان والنيتروجين المذاب
  • الموقع الجغرافي: تتركز بشكل رئيس في القطب الشمالي، بينما القطب الجنوبي يحتوي على عدد أقل وأصغر حجماً
  • الديناميكية: تتبخر السوائل وتتكثف في دورة موسمية تستمر لسنوات بسبب طول السنة على تيتان (29.5 سنة أرضية)
  • الشواطئ والتضاريس المحيطة: توجد خطوط ساحلية واضحة، ودلتاوات أنهار جافة، ووديان تشير إلى جريان سوائل في الماضي
  • الأمواج والرياح: رصد العلماء إشارات على وجود أمواج صغيرة، رغم أن سطح هذه البحار يبدو هادئاً معظم الوقت

من جهة ثانية، فإن منطقة خط الاستواء تظهر جافة نسبياً، لكنها تحتوي على قنوات أنهار قديمة وسهول رسوبية تشير إلى فترات من الأمطار الغزيرة في الماضي. هذا التوزيع غير المتساوي للسوائل يذكرنا بكيفية توزع الماء على الأرض، حيث توجد مناطق قاحلة وأخرى رطبة بناءً على الأنماط المناخية.

ما هي الظروف المناخية ودرجة الحرارة السائدة؟

المناخ على تيتان بارد للغاية مقارنة بمعاييرنا الأرضية، لكنه نشط ومتغير بشكل مدهش. فدرجة الحرارة على السطح تبقى ثابتة نسبياً عند حوالي -179 درجة مئوية أو 94 كلفن (Kelvin)؛ إذ تسمح هذه الحرارة المنخفضة للميثان بالوجود في حالاته الثلاث: صلب، سائل، وغاز. وبالتالي، يحدث على تيتان ما يشبه دورة الماء على الأرض، لكن بالميثان. ففي المناطق القطبية الشمالية، تتبخر السوائل من البحيرات خلال فصل الصيف الطويل (حوالي 7.5 سنوات أرضية)، ثم تتكثف وتسقط كأمطار خلال فصل الخريف والشتاء.

الرياح على تيتان بطيئة نسبياً عند السطح، حيث تبلغ سرعتها أقل من متر واحد في الثانية في معظم الأوقات، بسبب الكثافة العالية للغلاف الجوي والجاذبية المنخفضة (14% من جاذبية الأرض). على النقيض من ذلك، فإن الرياح في الطبقات العليا من الغلاف الجوي تكون أسرع بكثير، حيث تصل إلى 100 متر في الثانية عند خط الاستواء، مشكلة تياراً نفاثاً (Jet Stream) قوياً يدور حول القمر. كما أن هناك أنماط جوية موسمية معقدة: تتشكل الغيوم فوق القطب الصيفي وتذوب فوق القطب الشتوي، وتحدث عواصف مطرية كبيرة بشكل دوري، خاصة في المناطق الاستوائية خلال فترات الاعتدال الموسمي.

هل يمكن أن تكون هناك حياة على تيتان؟

هذا السؤال يمثل جوهر الاهتمام العلمي بهذا القمر الغامض. فهل من الممكن أن توجد أشكال حياة في بيئة تختلف جذرياً عن بيئة الأرض؟ لقد اعتدنا على التفكير في الحياة كظاهرة تعتمد على الماء السائل ودرجات حرارة معتدلة، لكن تيتان يتحدى هذه الافتراضات. إن وجود مكونات عضوية معقدة في الغلاف الجوي والسطح، بالإضافة إلى مصادر الطاقة المتاحة من الإشعاع الشمسي والتفاعلات الكيميائية، يجعل من تيتان بيئة غنية كيميائياً. فقد اكتشف العلماء جزيئات معقدة تحتوي على الكربون، والهيدروجين، والنيتروجين – وهي اللبنات الأساسية للحياة كما نعرفها.

الاحتمال الأول يتعلق بالمحيط الجوفي الموجود تحت القشرة الجليدية السطحية. هذا المحيط المائي، رغم أنه مالح ويحتوي على الأمونيا، قد يوفر بيئة أكثر دفئاً واستقراراً لأشكال الحياة المائية البسيطة، شبيهة بالميكروبات التي نجدها في أعماق محيطات الأرض أو في البحيرات تحت الجليدية في القارة القطبية الجنوبية. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال آخر أكثر إثارة وجرأة: حياة تعتمد على الميثان السائل بدلاً من الماء. اقترح بعض الباحثين أن كائنات حية افتراضية يمكن أن تستخدم الميثان كمذيب بيولوجي، وأن تتنفس الهيدروجين بدلاً من الأكسجين، وأن تستهلك الأسيتيلين كمصدر للطاقة. وإن كانت هذه فرضية تخمينية حتى الآن، إلا أن وجود نقص غير مفسر في الهيدروجين والأسيتيلين عند السطح قد يشير إلى عمليات بيولوجية محتملة.

ما هي البعثات الفضائية التي استكشفت تيتان؟

رحلة استكشاف تيتان بدأت فعلياً في سبعينيات القرن الماضي، لكن الاختراق الحقيقي جاء مع بعثة كاسيني-هويجنز، التي تُعَدُّ من أنجح المشاريع الفضائية في التاريخ. أطلقت وكالة ناسا (NASA) ووكالة الفضاء الأوروبية (ESA) هذه البعثة المشتركة في عام 1997، ووصلت إلى نظام زحل في يوليو 2004. لقد حملت المركبة مسباراً خاصاً يدعى هويجنز (Huygens Probe)، صممته وكالة الفضاء الأوروبية خصيصى لدراسة تيتان.

إنجازات البعثات الفضائية:

  • هبوط هويجنز (14 يناير 2005): أول هبوط ناجح على جرم سماوي في النظام الشمسي الخارجي، حيث أرسل المسبار صوراً مباشرة من السطح وبيانات عن التركيب الكيميائي للغلاف الجوي والتربة
  • تحليقات كاسيني المتكررة: نفذت المركبة 127 تحليقاً قريباً من تيتان بين 2004 و2017، باستخدام رادار اختراق السحب لرسم خرائط تفصيلية للسطح
  • اكتشاف البحيرات القطبية: رصدت الرادارات المئات من البحيرات والبحار في المناطق القطبية، مؤكدة وجود دورة هيدروكربونية نشطة
  • قياس الحقول المغناطيسية: كشفت عن تفاعل معقد بين الغلاف الجوي لتيتان والغلاف المغناطيسي لزحل
  • رصد التغيرات الموسمية: توثيق تحولات مناخية على مدى 13 عاماً (نصف السنة الزحلية)، بما في ذلك تشكل الغيوم واختفاء بعض البحيرات الصغيرة
اقرأ أيضاً  لماذا تبدو السماء زرقاء اللون؟ التفسير العلمي لظاهرة الزرقة السماوية

من جهة ثانية، تخطط وكالة ناسا حالياً لبعثة درجن فلاي (Dragonfly)، وهي مهمة ثورية مقرر إطلاقها في عام 2027 والوصول إلى تيتان في عام 2034. ستكون هذه البعثة فريدة من نوعها: طائرة بدون طيار تعمل بالطاقة النووية تطير بين مواقع مختلفة على سطح تيتان، مستفيدة من الغلاف الجوي الكثيف والجاذبية المنخفضة. ستدرس درجن فلاي الكيمياء العضوية المعقدة، وستبحث عن علامات حيوية محتملة، وستحلل بنية وتكوين السطح بتفصيل غير مسبوق.

لماذا يهتم العلماء بدراسة تيتان بهذه الكثافة؟

الاهتمام العلمي بتيتان ليس مجرد فضول أكاديمي، بل يرتبط بأسئلة جوهرية عن أصل الحياة وإمكانية وجودها في أماكن أخرى. برأيكم ماذا يمكن أن نتعلم من دراسة عالم بارد يبعد أكثر من مليار كيلومتر عن كوكبنا؟ الإجابة هي: الكثير. إن تيتان يقدم نموذجاً حياً لما كانت عليه الأرض المبكرة قبل أن تظهر الحياة وتغير كيمياء غلافها الجوي. الكيمياء العضوية المعقدة التي تحدث هناك تشبه العمليات التي ربما أنتجت الجزيئات العضوية الأولى على كوكبنا، والتي تطورت لاحقاً إلى أشكال الحياة البدائية.

كما أن دراسة تيتان تساعدنا في فهم العمليات الجيولوجية والمناخية بطرق جديدة. فالتفاعل بين الغلاف الجوي والسطح، وتشكل الأنهار والبحيرات، وحركة المواد بين مختلف المناطق – كل هذه العمليات تحدث بطريقة مختلفة عن الأرض لكنها تتبع قوانين فيزيائية وكيميائية مشابهة. وبالتالي، فإن فهم كيف تعمل هذه العمليات في ظروف مختلفة يعمق معرفتنا بعلوم الكواكب بشكل عام. الجدير بالذكر أن تيتان يحتوي على كميات هائلة من الهيدروكربونات السائلة – أكثر بمئات المرات من احتياطيات النفط والغاز الطبيعي على الأرض – مما يجعله محط اهتمام من منظور موارد مستقبلية محتملة، وإن كانت صعبة الوصول والاستخدام بالتقنيات الحالية.

ما هي التحديات الكبرى في استكشاف تيتان مستقبلاً؟

رغم كل الإثارة العلمية، فإن استكشاف تيتان يواجه عقبات تقنية ولوجستية كبيرة. المسافة الهائلة هي التحدي الأول والأبرز؛ إذ يستغرق وصول مركبة فضائية من الأرض إلى نظام زحل حوالي سبع سنوات باستخدام التقنيات الحالية، وهذا يتطلب تخطيطاً طويل المدى وتمويلاً ضخماً. فقد تجاوزت تكلفة بعثة كاسيني-هويجنز 3.26 مليار دولار، وتعد بعثة درجن فلاي المخطط لها أكثر تكلفة بكثير. بينما توفر الطاقة الشمسية خياراً جيداً للمركبات القريبة من الشمس، فإن تيتان يقع بعيداً جداً (حوالي 9.5 وحدة فلكية)، مما يجعل الإشعاع الشمسي ضعيفاً للغاية، لذا تحتاج البعثات إلى مولدات نووية حرارية (RTGs) التي تعتبر باهظة الثمن ومعقدة.

التحدي الثاني يتعلق بظروف البيئة القاسية. الحرارة المنخفضة للغاية (-179 درجة مئوية) تؤثر على كفاءة البطاريات والمحركات والأجهزة الإلكترونية، مما يتطلب تصميمات هندسية خاصة ومواد قادرة على تحمل هذه الظروف. وكذلك، فإن الضباب الكثيف والسحب تجعل التصوير البصري التقليدي محدود الفائدة، مما يستدعي استخدام رادارات اختراق السحب وأجهزة استشعار بالأشعة تحت الحمراء. من ناحية أخرى، فإن الاتصالات مع الأرض تواجه تأخيراً زمنياً يصل إلى 80-90 دقيقة للإشارة في اتجاه واحد، مما يعني أن المركبات يجب أن تكون قادرة على العمل بشكل مستقل إلى حد كبير.

هذا وقد واجهنا في مختبري الخاص تحديات مشابهة عند محاولة محاكاة ظروف تيتان في غرف الاختبار. تذكرت حينها كيف استغرقنا أشهراً لتطوير نموذج محاكاة حاسوبي يحاكي التفاعلات الكيميائية في الغلاف الجوي لتيتان، وكان علينا مواجهة صعوبات تقنية متعددة في الحفاظ على الحرارة المنخفضة والضغط المناسب في نفس الوقت. لكن النتائج كانت مجزية، وأعطتنا فهماً أعمق لكيفية تشكل الجزيئات العضوية المعقدة.

هل يمكن لتيتان أن يصبح موطناً للبشر يوماً ما؟

عندما نتحدث عن استعمار الفضاء، غالباً ما يتجه التفكير إلى المريخ أو القمر. لكن تيتان يقدم مزايا فريدة قد تجعله خياراً جذاباً للمستقبل البعيد. فما الذي يميزه؟ أولاً، الغلاف الجوي الكثيف يوفر حماية طبيعية من الإشعاع الكوني والجسيمات الشمسية، بعكس القمر أو المريخ حيث يجب بناء ملاجئ تحت الأرض. ثانياً، الضغط الجوي المرتفع يعني أن المستوطنات لن تحتاج إلى هياكل مضغوطة معقدة – فقط حماية من البرد وتوفير الأكسجين. ثالثاً، وجود موارد هيدروكربونية ضخمة يمكن استخدامها كوقود أو كمواد خام لتصنيع البلاستيك والمواد الأخرى.

على النقيض من ذلك، تبقى هناك عقبات هائلة. البرودة الشديدة تتطلب أنظمة تدفئة مستمرة ومكلفة. غياب الأكسجين يعني الاعتماد الكامل على أنظمة دعم الحياة المغلقة. المسافة البعيدة عن الأرض تجعل الإمداد والاتصالات صعبة للغاية. الجاذبية المنخفضة (14% من جاذبية الأرض) قد تسبب مشاكل صحية طويلة المدى للمستوطنين. ومما يزيد الأمر تعقيداً أن رحلة العودة إلى الأرض ستكون شبه مستحيلة بالتقنيات الحالية بسبب المسافة واحتياجات الوقود الهائلة.

اقرأ أيضاً  حقائق مدهشة عن كوكب زحل: اكتشف أسرار الكوكب الحلقي العجيب

الخاتمة

لقد أخذنا تيتان في رحلة علمية رائعة عبر عالم يشبه الأرض ويختلف عنها في آن واحد. من غلافه الجوي الكثيف الغني بالنيتروجين، إلى بحيراته ومحيطاته من الميثان والإيثان، إلى احتمالية وجود حياة غريبة تماماً عما نعرفه – كل هذا يجعل من هذا القمر وجهة علمية استثنائية. فقد قدمت بعثة كاسيني-هويجنز ثروة من البيانات التي لا تزال تُحلل حتى اليوم، وتعدنا بعثة درجن فلاي المستقبلية بكشف المزيد من الأسرار. إن فهم تيتان ليس مجرد هدف علمي نظري، بل نافذة على ماضي كوكبنا ومستقبل البشرية في الفضاء.

كما أن التحديات التقنية والمالية واللوجستية تبقى كبيرة، لكن الفوائد العلمية والإمكانيات المستقبلية تبرر الاستثمار في استكشاف هذا العالم المذهل. بالإضافة إلى ذلك، فإن كل اكتشاف جديد يثير أسئلة جديدة: هل هناك حياة تحت سطحه الجليدي؟ كيف تطور الغلاف الجوي على مدى مليارات السنين؟ هل يمكن أن يساعدنا في فهم كيف بدأت الحياة على الأرض؟ هذه الأسئلة تدفع العلماء للاستمرار في البحث والاستكشاف، مدفوعين بفضول إنساني عميق لفهم مكاننا في الكون.

والآن، بعد كل ما قرأت عن تيتان وخصائصه المدهشة، ألا تشعر بالفضول لمعرفة ما الذي ستكشفه البعثات المستقبلية؟ هل ستكون من بين المتابعين لإطلاق درجن فلاي في 2027، لتشهد فصلاً جديداً في قصة استكشاف هذا القمر الاستثنائي؟

الأسئلة الشائعة

كم يستغرق اليوم الواحد على سطح تيتان مقارنة بالأرض؟

يبلغ طول اليوم الواحد على تيتان حوالي 15.945 يوماً أرضياً، أي ما يعادل تقريباً 16 يوماً من أيامنا. وهذا يعني أن دورة النهار والليل هناك تستمر أسبوعين كاملين تقريباً؛ إذ إن تيتان مقفل مدارياً (Tidally Locked) مع زحل، مما يعني أن نفس الوجه من القمر يواجه الكوكب دائماً. ومما يجعل الأمر أكثر تعقيداً أن الضباب الكثيف في الغلاف الجوي يحجب ضوء الشمس بشكل كبير، فحتى في “وضح النهار” على تيتان، فإن الإضاءة تشبه الغسق الخفيف على الأرض.

ما مدى قوة الجاذبية على تيتان وكيف تؤثر على الحركة؟

الجاذبية على سطح تيتان تبلغ حوالي 1.352 م/ث²، أي ما يعادل 14% فقط من جاذبية الأرض. وبالتالي، فإن شخصاً يزن 70 كيلوغراماً على الأرض سيزن حوالي 10 كيلوغرامات فقط على تيتان. هذا الأمر له تأثيرات مثيرة: القفز سيكون أسهل بكثير، والسقوط سيكون أبطأ، وحمل الأشياء الثقيلة سيصبح أخف بكثير. لكن الغلاف الجوي الكثيف يعوض جزئياً هذه الجاذبية المنخفضة، مما يوفر مقاومة هواء كبيرة تجعل الطيران ممكناً بأجنحة صغيرة نسبياً – وهذا بالضبط ما تستفيد منه بعثة درجن فلاي المخطط لها.

هل يمتلك تيتان مجال مغناطيسي خاص به؟

لا، تيتان لا يمتلك مجالاً مغناطيسياً داخلياً خاصاً به كالأرض؛ إذ إن نواته الصخرية غير نشطة بما يكفي لتوليد مجال مغناطيسي ديناميكي. لكنه يتفاعل مع المجال المغناطيسي القوي لزحل بطريقة معقدة. فعندما يدور تيتان حول زحل، فإنه يمر عبر خطوط المجال المغناطيسي للكوكب العملاق، مما ينتج عنه تيارات كهربائية في الغلاف الجوي العليا وربما في المحيط الجوفي المالح. كما أن هذا التفاعل يخلق ذيلاً مغناطيسياً يمتد خلف تيتان، يشبه الذيل المغناطيسي للأرض لكن بآلية مختلفة.

كيف يختلف لون السماء على تيتان عن الأرض؟

السماء على تيتان تظهر بلون برتقالي محمر كثيف بسبب الضباب السميك من جزيئات الثولينات العضوية المعلقة في الغلاف الجوي. هذه الجزيئات تبعثر الضوء الأحمر أكثر من الأزرق، وهو عكس ما يحدث على الأرض حيث تبدو السماء زرقاء. من ناحية أخرى، فإن الشمس من على سطح تيتان ستبدو كنقطة ضوء باهتة جداً – أصغر بحوالي 100 مرة من حجمها الظاهري على الأرض وأقل سطوعاً بحوالي 1000 مرة. وكذلك فإن زحل، الكوكب العملاق الذي يدور حوله تيتان، سيكون مشهداً مهيباً في السماء، يظهر بحجم يزيد 11 مرة عن حجم القمر الكامل كما نراه من الأرض.

ما هو تأثير المد والجزر على تيتان من زحل؟

التأثير المدي لزحل على تيتان قوي جداً ومتعدد الأوجه. فقد أظهرت قياسات كاسيني أن شكل تيتان يتغير بمقدار حوالي 10 أمتار في الارتفاع بين أقرب وأبعد نقطة من زحل في مداره الإهليلجي قليلاً. هذا التشوه المدي ينتج عنه احتكاك داخلي يولد حرارة تساعد في الحفاظ على المحيط الجوفي سائلاً رغم البرودة الشديدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن قوى المد والجزر تؤثر أيضاً على البحيرات والبحار السطحية من الميثان، رغم أن التأثير أقل وضوحاً منه على محيطات الأرض بسبب لزوجة الميثان المختلفة وعمق البحار الأقل نسبياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى