كيف يفوق عدد الميكروبات في الجسم عدد الخلايا؟
كيف يغير عدد الميكروبات في الجسم فهمنا للبيولوجيا

لطالما ساد الاعتقاد في الأوساط العلمية والشعبية أن الكائن البشري هو كيان مستقل، يتكون من خلايا بشرية بحتة تعمل في تناغم تام. إلا أن التقدم الهائل في علم الأحياء الدقيقة وتقنيات التسلسل الجيني قد كشف عن حقيقة مذهلة ومعقدة: نحن لسنا وحدنا. إن أجسادنا هي في الواقع أنظمة بيئية شاسعة ومزدحمة، تستضيف تريليونات من الكائنات الحية الدقيقة التي تشمل البكتيريا والفطريات والفيروسات والعتائق. هذه الحقيقة تطرح سؤالاً جوهرياً أثار جدلاً واسعاً: ما هو عدد الميكروبات في الجسم مقارنة بعدد خلايانا البشرية؟ لعقود من الزمان، هيمنت على النقاش نسبة “10 إلى 1” الشهيرة، التي تفترض وجود عشرة ميكروبات مقابل كل خلية بشرية. لكن الأبحاث الحديثة قدمت رؤية أكثر دقة وتوازناً، وإن كانت لا تزال تؤكد على الأهمية العددية والوظيفية الهائلة لهؤلاء السكان المجهريين. هذه المقالة ستغوص في عمق هذا الموضوع، متتبعة تطور التقديرات العلمية، ومستعرضة المنهجيات المعقدة لحساب هذه الأرقام الفلكية، ومحللة الأسباب التي تجعل فهم عدد الميكروبات في الجسم أمراً حيوياً لصحتنا ورفاهيتنا، بل وحتى لتعريفنا لمفهوم “الإنسان”. إن استكشاف هذا العالم الخفي لا يغير فقط فهمنا للبيولوجيا البشرية، بل يفتح آفاقاً جديدة للطب والعلوم الصحية، مؤكداً أن دراسة عدد الميكروبات في الجسم هي مفتاح لفهم أعمق لأسرار الحياة نفسها.
تفكيك الأسطورة: من نسبة 10:1 إلى التقديرات الحديثة
كانت فكرة أن عدد الميكروبات في الجسم يفوق عدد خلايانا بنسبة 10 إلى 1 راسخة في الوعي العلمي لعقود. نشأت هذه النسبة من حساب تقريبي أجراه عالم الأحياء الدقيقة توماس لوكي في عام 1972. استند لوكي في تقديره إلى افتراض أن هناك حوالي 10 تريليونات خلية بشرية في الجسم، وقدر أن الأمعاء وحدها تحتوي على 100 تريليون ميكروب، وذلك بضرب حجم الأمعاء (حوالي لتر واحد) في كثافة البكتيريا المقدرة في البراز (حوالي 10^11 بكتيريا لكل جرام). على الرغم من أن هذا الحساب كان مبنياً على تقديرات أولية ولم يكن مخصصاً ليكون رقماً دقيقاً، إلا أنه انتشر على نطاق واسع وأصبح حقيقة علمية شائعة. لقد قدمت هذه النسبة صورة درامية للتأكيد على أهمية الميكروبيوم، لكنها لم تكن مدعومة بتحليل منهجي صارم.
في عام 2016، جاءت دراسة محورية من قبل رون سيندر، وشاي فوكس، ورون ميلو من معهد وايزمان للعلوم لتتحدى هذه الأسطورة بشكل مباشر. قام الباحثون بإعادة تقييم شاملة لكل من عدد الخلايا البشرية وعدد الميكروبات في الجسم. بالنسبة للخلايا البشرية، بدلاً من الاعتماد على تقدير عام، قاموا بتحليل مفصل لأنواع الخلايا المختلفة وأعدادها في “رجل مرجعي” يزن 70 كيلوجراماً. وجدوا أن خلايا الدم الحمراء، على الرغم من صغر حجمها، تشكل الغالبية العظمى من الخلايا البشرية (حوالي 84%)، لكنها تساهم بشكل ضئيل في الكتلة الكلية. بعد حساب دقيق لمختلف الأنسجة، توصلوا إلى أن العدد الإجمالي للخلايا البشرية يقارب 30 تريليون خلية، وليس 10 تريليونات كما كان يُعتقد سابقاً.
بعد ذلك، وجه الباحثون انتباههم إلى تقدير عدد الميكروبات في الجسم. ركزوا على القولون، حيث توجد الكثافة الأعلى من الميكروبات. باستخدام بيانات أحدث وأكثر دقة حول تركيز الميكروبات في القولون، توصلوا إلى أن العدد الإجمالي للميكروبات يقدر بحوالي 38 تريليون. عند مقارنة هذين الرقمين (30 تريليون خلية بشرية و38 تريليون ميكروب)، تصبح النسبة أقرب إلى 1.3 إلى 1، أو تقريباً 1:1. هذا الرقم، على الرغم من كونه أقل دراماتيكية من نسبة 10:1، إلا أنه لا يزال مذهلاً. إنه يعني أنه، من حيث العدد المطلق، نحن متوازنون تقريباً بين خلايانا وميكروباتنا. إن هذا التعديل في فهم عدد الميكروبات في الجسم لا يقلل من أهمية الميكروبيوم، بل يضعه في سياق بيولوجي أكثر دقة، مما يؤكد أننا نظام بيئي متكامل ومعقد، وليس مجرد مضيف سلبي لمستعمرات جرثومية. إن فهم التعقيدات وراء حساب عدد الميكروبات في الجسم هو الخطوة الأولى نحو تقدير دوره الحقيقي.
منهجية العد: تحديات تقدير عدد الميكروبات في الجسم
إن الوصول إلى رقم دقيق لـ عدد الميكروبات في الجسم هو مهمة معقدة ومليئة بالتحديات المنهجية، وهو ما يفسر التباين في التقديرات على مر السنين. تتطلب هذه العملية عد مكونين مختلفين تماماً: الخلايا البشرية والخلايا الميكروبية، وكل منهما يطرح مجموعة فريدة من الصعوبات.
أولاً، حساب الخلايا البشرية ليس بالأمر الهين. يتكون الجسم البشري من مئات الأنواع المختلفة من الخلايا، تتفاوت بشكل كبير في الحجم والكتلة والكثافة. على سبيل المثال، الخلايا العصبية يمكن أن تكون طويلة جداً، بينما خلايا الدم الحمراء صغيرة ومضغوطة. الخلايا الدهنية كبيرة ولكنها خفيفة نسبياً. لذلك، لا يمكن ببساطة أخذ كتلة الجسم وتقسيمها على متوسط حجم الخلية. النهج الدقيق، كما اتبعته دراسة عام 2016، يتطلب مراجعة الأدبيات العلمية لتقدير عدد كل نوع من الخلايا في كل نسيج وعضو، ثم تجميع هذه الأرقام. هذا النهج نفسه يعتمد على بيانات مستمدة من عينات صغيرة ويتم تعميمها، مما يترك هامشاً للخطأ.
ثانياً، وهو التحدي الأكبر، هو حساب عدد الميكروبات في الجسم. الغالبية العظمى من هذه الميكروبات تقيم في الجهاز الهضمي، وتحديداً في القولون. المشكلة الأساسية هي أننا لا نستطيع أخذ عينة مباشرة من القولون بالكامل لدى شخص حي. لذلك، يعتمد العلماء على تحليل عينات البراز. ومع ذلك، فإن كثافة الميكروبات في البراز قد لا تعكس بدقة الكثافة في جميع أجزاء القولون. علاوة على ذلك، فإن عدد الميكروبات في الجسم ليس ثابتاً؛ فهو يتأثر بشكل كبير بالنظام الغذائي، والصحة، وحتى الوقت من اليوم. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي إفراغ الأمعاء إلى خفض مؤقت وكبير في عدد الميكروبات في الجسم. الدراسة التي أجراها سيندر وزملاؤه أخذت هذا التقلب في الاعتبار، مما جعل تقديراتهم أكثر قوة.
بالإضافة إلى صعوبة أخذ العينات، هناك تحدي تقنيات العد نفسها. الطرق التقليدية، مثل زراعة الميكروبات في المختبر، تفشل في حساب الغالبية العظمى من الأنواع، لأن الكثير منها لا يمكن زراعته خارج بيئته الطبيعية. أما التقنيات الحديثة، مثل التسلسل الجيني (Metagenomics)، فهي ممتازة في تحديد تنوع الأنواع الموجودة ولكنها أقل دقة في تحديد الأعداد المطلقة. تقوم هذه التقنيات بعد الجينات بدلاً من الخلايا مباشرة، ويتطلب تحويل عدد الجينات إلى عدد خلايا افتراضات حول متوسط حجم الجينوم الميكروبي، والذي يختلف من نوع لآخر. لذا، فإن أي تقدير لـ عدد الميكروبات في الجسم هو في جوهره متوسط يعتمد على نماذج رياضية وافتراضات متعددة. على الرغم من هذه التحديات، فإن الجهود المستمرة لتحسين هذه المنهجيات تساهم في تقديم صورة أكثر وضوحاً ودقة لهذا العالم الخفي، مما يؤكد أن النقاش حول عدد الميكروبات في الجسم سيستمر في التطور مع تقدم العلم.
الميكروبيوم البشري: مستعمرات حيوية في كل زاوية
عندما نتحدث عن عدد الميكروبات في الجسم، غالباً ما يتبادر إلى الذهن الجهاز الهضمي، وهو بالفعل الموطن الرئيسي لهذه الكائنات. ومع ذلك، فإن الميكروبيوم البشري هو نظام بيئي موزع في جميع أنحاء الجسم، حيث تحتل مجتمعات ميكروبية فريدة كل سطح وكل تجويف تقريباً، من الجلد الخارجي إلى أعمق أجزاء الرئتين. إن فهم هذا التوزيع الواسع ضروري لتقدير الحجم الهائل لـ عدد الميكروبات في الجسم وتأثيره المتنوع.
الجهاز الهضمي: هو “العاصمة” بلا منازع للعالم الميكروبي داخلنا. يحتوي القولون وحده على ما يقدر بنحو 38 تريليون ميكروب، وهو ما يشكل الغالبية العظمى من إجمالي عدد الميكروبات في الجسم. هذه البيئة منخفضة الأكسجين والغنية بالمغذيات (الألياف غير المهضومة) هي المكان المثالي لازدهار البكتيريا اللاهوائية. يلعب هذا المجتمع الميكروبي أدواراً حيوية في هضم الكربوهيدرات المعقدة، وإنتاج الفيتامينات الأساسية مثل فيتامين K وفيتامينات B، وتنظيم عملية التمثيل الغذائي.
الجلد: يمثل الجلد أكبر عضو في الجسم، وهو خط الدفاع الأول ضد العالم الخارجي. يغطيه نظام بيئي ميكروبي معقد ومتنوع، يختلف تكوينه بشكل كبير اعتماداً على الموقع (المناطق الدهنية مثل الوجه مقابل المناطق الجافة مثل الساعد أو الرطبة مثل الإبط). تساهم هذه الميكروبات الجلدية في الحفاظ على درجة حموضة الجلد، وتدريب جهاز المناعة الموجود في الجلد، ومنع استعمار مسببات الأمراض عن طريق التنافس معها على الموارد والمساحة. على الرغم من أن كثافتها أقل من الأمعاء، إلا أن مساحة الجلد الشاسعة تضمن أن مساهمتها في إجمالي عدد الميكروبات في الجسم ليست ضئيلة.
تجويف الفم: الفم هو بيئة دافئة ورطبة وغنية بالمغذيات، مما يجعله موطناً مثالياً لمئات الأنواع من البكتيريا. تتشبث هذه الميكروبات بالأسنان واللثة واللسان، وتشكل أغشية حيوية معقدة تعرف باللويحات السنية (Plaque). في حين أن بعض هذه الميكروبات ضرورية لصحة الفم، فإن اختلال توازنها يمكن أن يؤدي إلى أمراض شائعة مثل تسوس الأسنان وأمراض اللثة. إن عدد الميكروبات في الجسم الموجودة في الفم وحده يقدر بالمليارات، مما يجعله أحد أكثر النظم البيئية الميكروبية كثافة.
الجهاز التنفسي والجهاز البولي التناسلي: كان يُعتقد في السابق أن مناطق مثل الرئتين والمثانة معقمة، لكن التقنيات الحديثة كشفت عن وجود مجتمعات ميكروبية منخفضة الكتلة ولكنها نشطة. في الجهاز التنفسي، يساعد الميكروبيوم في الحفاظ على صحة الرئة، بينما في الجهاز البولي التناسلي، وخاصة المهبل، تلعب بكتيريا اللاكتوباسيلس (العصيات اللبنية) دوراً حاسماً في الحفاظ على بيئة حمضية تحمي من العدوى. إن وجود هذه المجتمعات يؤكد أن تقدير عدد الميكروبات في الجسم يجب أن يأخذ في الاعتبار هذه المواقع التي تم تجاهلها سابقاً. هذا التوزيع الشامل يوضح أننا لسنا مجرد كائنات بشرية تحمل بعض الميكروبات في أمعائها؛ بل نحن “كائنات خارقة” (Superorganisms)، حيث تتشابك بيولوجيتنا بشكل لا ينفصم مع بيولوجيا سكاننا الميكروبيين. إن التأثير الجماعي لهذا العدد الهائل من الميكروبات في الجسم هو الذي يحدد الكثير من جوانب صحتنا ومرضنا.
الوظائف الحيوية: لماذا يهم عدد الميكروبات في الجسم؟
إن النقاش حول عدد الميكروبات في الجسم يتجاوز مجرد كونه مسألة إحصائية مثيرة للاهتمام. الأهمية الحقيقية تكمن في الوظائف الحيوية الهائلة التي يؤديها هذا المجتمع الميكروبي، والتي لا تستطيع خلايانا البشرية القيام بها بمفردها. إن الجينوم البشري يحتوي على حوالي 20,000 جين، بينما يحتوي الجينوم الميكروبي الجماعي (الميتاجينوم) في أجسامنا على ملايين الجينات. هذا التنوع الجيني الهائل يمنحنا قدرات وظيفية إضافية ضرورية لبقائنا وصحتنا.
الهضم والتمثيل الغذائي: أحد أبرز الأدوار التي يلعبها الميكروبيوم المعوي هو المساعدة في عملية الهضم. لا تمتلك الأنزيمات البشرية القدرة على تفكيك الكربوهيدرات المعقدة الموجودة في الألياف النباتية. تقوم بكتيريا القولون بتخمير هذه الألياف، وتنتج مركبات حيوية تسمى الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة (SCFAs)، مثل البيوتيرات والبروبيونات والأسيتات. هذه المركبات ليست مجرد مصدر طاقة لخلايا القولون، بل لها تأثيرات تنظيمية واسعة النطاق على الجسم، بما في ذلك التحكم في الشهية، وتقليل الالتهابات، وتنظيم مستويات السكر في الدم. بالإضافة إلى ذلك، يساهم الميكروبيوم في إنتاج فيتامينات أساسية لا نستطيع تصنيعها بكميات كافية، مثل فيتامين K (الضروري لتخثر الدم) والعديد من فيتامينات B. إن تأثير عدد الميكروبات في الجسم على عمليات الأيض لدينا هو تأثير عميق ومباشر.
تطوير وتنظيم جهاز المناعة: إن وجود هذا العدد الكبير من الميكروبات في الجسم منذ الولادة يلعب دوراً حاسماً في “تدريب” وتطوير جهاز المناعة. يتعلم الجهاز المناعي في مراحل مبكرة من الحياة التمييز بين الميكروبات الصديقة (المتعايشة) والميكروبات الضارة (الممرضة). يساعد هذا التفاعل المبكر على معايرة الاستجابات المناعية، ومنع ردود الفعل المفرطة التي يمكن أن تؤدي إلى الحساسية وأمراض المناعة الذاتية. تعمل الميكروبات المتعايشة أيضاً على تحفيز إنتاج خلايا مناعية معينة، مثل الخلايا التائية التنظيمية (T-regs)، التي تساعد على كبح الاستجابات الالتهابية غير الضرورية. وبالتالي، فإن الحفاظ على توازن صحي في عدد الميكروبات في الجسم وتنوعها أمر حيوي لوظيفة مناعية سليمة.
الحماية من مسببات الأمراض: يعمل الميكروبيوم المقيم كخط دفاع بيولوجي ضد العدوى. هذه الظاهرة، المعروفة باسم “مقاومة الاستعمار” (Colonization Resistance)، تحدث من خلال عدة آليات. أولاً، تتنافس الميكروبات المتعايشة مع الميكروبات الممرضة على الموارد الغذائية والمساحة على جدار الأمعاء، مما يحد من قدرة الغزاة على التكاثر. ثانياً، تنتج بعض الميكروبات المفيدة مركبات مضادة للميكروبات (مثل البكتريوسينات) التي تقتل أو تمنع نمو الأنواع الضارة. ثالثاً، يمكنها تعديل بيئتها، مثل خفض درجة الحموضة، لجعلها غير مناسبة لمسببات الأمراض. إن أي اضطراب كبير في عدد الميكروبات في الجسم، كما يحدث بعد تناول المضادات الحيوية، يمكن أن يضعف هذه الحماية ويجعل الشخص أكثر عرضة للعدوى.
محور الأمعاء-الدماغ: أحد أكثر مجالات البحث إثارة هو العلاقة ثنائية الاتجاه بين ميكروبات الأمعاء والدماغ. يمكن للميكروبيوم أن يؤثر على وظائف الدماغ والمزاج والسلوك من خلال مسارات متعددة، بما في ذلك إنتاج النواقل العصبية (مثل السيروتونين والدوبامين)، والتواصل عبر العصب المبهم، وتنظيم الاستجابات الالتهابية التي يمكن أن تؤثر على الدماغ. تشير الأبحاث الناشئة إلى أن التغيرات في عدد الميكروبات في الجسم وتكوينها قد تكون مرتبطة بحالات مثل القلق والاكتئاب وحتى اضطرابات طيف التوحد. هذا المجال يفتح الباب أمام علاجات جديدة تستهدف الميكروبيوم لتحسين الصحة العقلية.
العوامل المؤثرة على عدد الميكروبات في الجسم وتنوعها
إن عدد الميكروبات في الجسم وتكوينه ليسا ثابتين، بل هما نتاج تفاعل ديناميكي ومستمر بين عواملنا الوراثية وبيئتنا ونمط حياتنا. هذا النظام البيئي الميكروبي يتغير ويتكيف باستمرار، مما يجعله حساساً لمجموعة واسعة من التأثيرات طوال حياتنا.
الولادة والرضاعة: تبدأ قصة الميكروبيوم لدينا عند الولادة. الأطفال الذين يولدون عن طريق الولادة الطبيعية يتعرضون لميكروبات قناة الولادة لدى الأم، والتي تهيمن عليها بكتيريا اللاكتوباسيلس. هذه الميكروبات الأولية تساعد في تأسيس ميكروبيوم صحي في أمعاء الرضيع. في المقابل، يكتسب الأطفال الذين يولدون عن طريق الولادة القيصرية ميكروبات من جلد الأم وبيئة المستشفى، مما يؤدي إلى تكوين ميكروبيوم أولي مختلف قد يستغرق وقتاً أطول ليستقر. الرضاعة الطبيعية أيضاً تلعب دوراً حاسماً، حيث يحتوي حليب الأم على سكريات معقدة (HMOs) لا يستطيع الرضيع هضمها، ولكنها تعمل كغذاء انتقائي (بريبيوتيك) لتغذية البكتيريا المفيدة مثل بكتيريا البيفيدوباكتيريوم. هذه العوامل المبكرة تؤثر بشكل كبير على المسار التنموي لـ عدد الميكروبات في الجسم.
النظام الغذائي: ربما يكون النظام الغذائي هو العامل الأكثر تأثيراً على عدد الميكروبات في الجسم وتنوعه في مرحلة البلوغ. الميكروبات المعوية تتغذى على ما نأكله، وخاصة المكونات التي لا نستطيع هضمها. الأنظمة الغذائية الغنية بالألياف من الفواكه والخضروات والحبوب الكاملة تدعم نمو مجموعة متنوعة من الميكروبات المفيدة التي تنتج مركبات صحية مثل الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة. على النقيض من ذلك، فإن الأنظمة الغذائية الغربية، التي تتميز بارتفاع نسبة الدهون والسكريات والأطعمة المصنعة وانخفاض الألياف، تميل إلى تقليل تنوع الميكروبات وتعزيز نمو الأنواع المرتبطة بالالتهابات والأمراض المزمنة. إن التغييرات في النظام الغذائي يمكن أن تحدث تحولات سريعة في تكوين الميكروبيوم، مما يوضح مدى مرونته وتأثره بخياراتنا اليومية.
الأدوية، وخاصة المضادات الحيوية: للمضادات الحيوية تأثير مدمر على عدد الميكروبات في الجسم. في حين أنها ضرورية لمحاربة العدوى البكتيرية، إلا أنها لا تفرق بين البكتيريا الضارة والنافعة، مما يؤدي إلى قتل جماعي في الميكروبيوم. يمكن أن يستغرق الأمر أسابيع أو حتى أشهراً حتى يتعافى الميكروبيوم، وفي بعض الحالات، قد لا يعود أبداً إلى حالته الأصلية. هذا الاضطراب يمكن أن يفتح الباب أمام نمو مفرط لمسببات الأمراض الانتهازية، مثل المطثية العسيرة (C. difficile)، ويزيد من خطر الإصابة بأمراض مزمنة. أدوية أخرى، مثل مثبطات مضخة البروتون ومضادات الالتهاب غير الستيرويدية، يمكن أن تؤثر أيضاً على توازن الميكروبيوم.
نمط الحياة والبيئة: عوامل أخرى في نمط حياتنا وبيئتنا تلعب دوراً. ممارسة الرياضة بانتظام ترتبط بزيادة تنوع الميكروبات. الإجهاد المزمن يمكن أن يغير تكوين الميكروبيوم من خلال تأثيره على حركية الأمعاء وإفرازات الهرمونات. البيئة التي نعيش فيها – سواء كانت حضرية أو ريفية، ودرجة تعرضنا للطبيعة والحيوانات – تؤثر أيضاً على أنواع الميكروبات التي نتعرض لها ونستضيفها. حتى العوامل الوراثية للشخص المضيف يمكن أن تؤثر على عدد الميكروبات في الجسم، وإن كان يعتقد أن تأثيرها أقل من تأثير العوامل البيئية. إن فهم هذه التأثيرات المتعددة ضروري لتطوير استراتيجيات شخصية للحفاظ على ميكروبيوم صحي ومتوازن، وبالتالي تعزيز الصحة العامة.
الآثار المترتبة على الصحة والمرض: عندما يختل التوازن
إن الحفاظ على توازن صحي في عدد الميكروبات في الجسم وتنوعها، وهو ما يعرف بالتوازن الميكروبي (Eubiosis)، أمر أساسي للصحة الجيدة. عندما يختل هذا التوازن – وهي حالة تعرف باسم الاختلال الميكروبي (Dysbiosis)، والتي قد تنطوي على انخفاض في التنوع، أو فقدان الميكروبات المفيدة، أو فرط نمو الميكروبات الضارة – يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على الصحة، ويسهم في تطور مجموعة واسعة من الأمراض.
أمراض الجهاز الهضمي: الارتباط الأكثر وضوحاً هو بين الاختلال الميكروبي وأمراض الجهاز الهضمي. في أمراض الأمعاء الالتهابية (IBD)، مثل مرض كرون والتهاب القولون التقرحي، يلاحظ وجود انخفاض كبير في تنوع الميكروبات وزيادة في البكتيريا التي تعزز الالتهاب. متلازمة القولون العصبي (IBS)، التي تتميز بأعراض مثل آلام البطن والانتفاخ وتغير عادات الأمعاء، ترتبط أيضاً بتغيرات في عدد الميكروبات في الجسم وتكوينها. عدوى المطثية العسيرة، التي غالباً ما تحدث بعد العلاج بالمضادات الحيوية، هي مثال صارخ على كيف يمكن للاختلال الميكروبي أن يسمح لمسبب مرض بالسيطرة.
الأمراض الأيضية: هناك أدلة متزايدة تربط بين الميكروبيوم المعوي والسمنة ومرض السكري من النوع 2. أظهرت الدراسات أن الميكروبيوم لدى الأفراد الذين يعانون من السمنة قد يكون أكثر كفاءة في استخلاص الطاقة من الطعام، مما يساهم في زيادة الوزن. كما أن الاختلال الميكروبي يمكن أن يؤدي إلى زيادة نفاذية الأمعاء (“الأمعاء المتسربة”)، مما يسمح للمركبات البكتيرية الالتهابية بالدخول إلى مجرى الدم، والتسبب في التهاب مزمن منخفض الدرجة، وهو عامل رئيسي في مقاومة الأنسولين وتطور مرض السكري. إن التلاعب بـ عدد الميكروبات في الجسم من خلال النظام الغذائي أو البروبيوتيك أصبح مجالاً واعداً للبحث في إدارة هذه الحالات.
أمراض المناعة الذاتية والحساسية: نظرية “فرضية النظافة” تقترح أن انخفاض التعرض للميكروبات في مرحلة الطفولة المبكرة في البيئات الحديثة والمعقمة قد يؤدي إلى جهاز مناعي غير مدرب جيداً، وأكثر عرضة لردود الفعل المفرطة تجاه مواد غير ضارة (الحساسية) أو حتى أنسجة الجسم نفسه (أمراض المناعة الذاتية). يدعم هذا الرأي ارتباط الاختلال الميكروبي بزيادة معدلات الربو، والأكزيما، والتهاب المفاصل الروماتويدي، والتصلب المتعدد. إن الحفاظ على تنوع صحي في عدد الميكروبات في الجسم في وقت مبكر من الحياة قد يكون مفتاحاً للوقاية من هذه الأمراض.
الصحة العقلية والأمراض العصبية: كما ذكرنا سابقاً، يؤثر محور الأمعاء-الدماغ بشكل عميق على صحتنا العقلية. تم ربط الاختلال الميكروبي بحالات مثل الاكتئاب والقلق. تشير بعض الأبحاث الأولية أيضاً إلى وجود صلات بين الميكروبيوم وأمراض التنكس العصبي مثل مرض باركنسون ومرض الزهايمر، حيث قد يلعب الالتهاب الناشئ من الأمعاء دوراً في تطور هذه الأمراض. إن دراسة كيفية تأثير التغيرات في عدد الميكروبات في الجسم على الدماغ هي واحدة من أكثر الحدود إثارة في علم الأعصاب. هذه الأمثلة تسلط الضوء على أن الميكروبيوم ليس مجرد متفرج سلبي، بل هو لاعب نشط في صحتنا. إن فهم الآليات التي يؤثر بها عدد الميكروبات في الجسم على وظائف الأعضاء المختلفة يفتح الباب أمام استراتيجيات علاجية جديدة ومبتكرة، مثل زراعة البراز الميكروبي (FMT)، والبروبيوتيك، والبريبيوتيك، لتصحيح الاختلال الميكروبي وعلاج الأمراض المرتبطة به.
خاتمة: إعادة تعريف “الإنسان” في عصر الميكروبيوم
لقد أحدثت الرحلة العلمية لفهم عدد الميكروبات في الجسم ثورة في نظرتنا إلى أنفسنا. انتقلنا من الأسطورة المبالغ فيها لنسبة 10:1 إلى تقدير أكثر دقة وتوازناً يقترب من 1:1، لكن الرسالة الأساسية ظلت أقوى من أي وقت مضى: نحن لسنا كائنات فردية، بل أنظمة بيئية معقدة ومتكاملة. إن حقيقة أن عدد الميكروبات في الجسم يضاهي تقريباً عدد خلايانا البشرية تجبرنا على إعادة التفكير في تعريف “الإنسان”. لم نعد نستطيع رؤية أنفسنا ككيانات بشرية بحتة؛ بل نحن “كائنات كلية” (Holobionts)، حيث تتشابك بيولوجيتنا البشرية وجينومنا بشكل لا ينفصم مع بيولوجيا وجينومات سكاننا الميكروبيين.
إن أهمية هذا الفهم تتجاوز الفضول الأكاديمي. لقد أثبتنا أن عدد الميكروبات في الجسم وتنوعه ليسا مجرد أرقام، بل هما أساس لوظائف حيوية تمتد من هضم طعامنا وتصنيع الفيتامينات، إلى تدريب جهاز المناعة لدينا، وحمايتنا من الأمراض، وحتى التأثير على مزاجنا وأفكارنا. عندما يختل هذا التوازن الدقيق، يمكن أن تنشأ عواقب صحية وخيمة، مما يضع الميكروبيوم في قلب العديد من الأمراض المزمنة التي تواجه مجتمعاتنا الحديثة.
إن الاعتراف بأهمية عدد الميكروبات في الجسم يفتح آفاقاً جديدة ومثيرة في الطب. بدلاً من التركيز فقط على الخلايا البشرية، بدأ الطب الحديث في النظر إلى الجسم كنظام بيئي يجب الحفاظ على توازنه. علاجات مثل زراعة البراز الميكروبي، واستخدام البروبيوتيك والبريبيوتيك المصممة بدقة، والطب الشخصي القائم على تحليل الميكروبيوم لم تعد من قبيل الخيال العلمي، بل أصبحت واقعاً سريرياً وأساساً للبحث المستقبلي. إن دراسة عدد الميكروبات في الجسم وعلاقته بالصحة تظل واحدة من أكثر المجالات ديناميكية في علوم الحياة. في نهاية المطاف، فإن تقدير هذا العالم الخفي الذي يعيش فينا وعلينا لا يغير فهمنا للبيولوجيا فحسب، بل يمنحنا أيضاً شعوراً أعمق بالترابط مع العالم الطبيعي، ويذكرنا بأن صحتنا تعتمد على الانسجام مع أصغر أشكال الحياة.
الأسئلة الشائعة
1. هل صحيح أن عدد الميكروبات في أجسامنا يفوق عدد خلايانا البشرية بنسبة 10 إلى 1؟
إجابة: هذه المقولة، على الرغم من شهرتها الواسعة، تعتبر الآن تقديراً قديماً ومبالغاً فيه. نشأت نسبة “10 إلى 1” من حساب تقريبي في السبعينيات ولم تكن مبنية على تحليل منهجي شامل. الأبحاث الحديثة والأكثر دقة، وتحديداً دراسة بارزة من معهد وايزمان للعلوم عام 2016، قامت بإعادة تقييم كل من عدد الخلايا البشرية وعدد الميكروبات في الجسم. توصلت الدراسة إلى أن “الرجل المرجعي” (يزن 70 كجم) يمتلك حوالي 30 تريليون خلية بشرية وما يقرب من 38 تريليون خلية بكتيرية. هذا يضع النسبة أقرب بكثير إلى 1.3 إلى 1، أو تقريباً 1:1. لذا، في حين أن الميكروبات قد لا تزال تفوق خلايانا عدداً، إلا أن الهامش أقل دراماتيكية بكثير. الأهم من الرقم الدقيق هو الاعتراف بأننا نظام بيئي متكامل، حيث يلعب الميكروبيوم دوراً حيوياً ومساوياً تقريباً من حيث العدد.
2. كيف يقوم العلماء بحساب هذه الأعداد الفلكية للخلايا والميكروبات بدقة؟
إجابة: عملية العد معقدة وتعتمد على نماذج وتقديرات مستنيرة. لحساب الخلايا البشرية، يقوم الباحثون بمراجعة الأدبيات العلمية بشكل شامل لتقدير عدد الخلايا في كل نسيج وعضو على حدة (مثل الدم، الجلد، العضلات، الدماغ)، مع الأخذ في الاعتبار الأنواع المختلفة من الخلايا وأحجامها، ثم يقومون بتجميع هذه الأرقام. أما بالنسبة لـ عدد الميكروبات في الجسم، فالتركيز يكون على القولون حيث توجد الكثافة الأعلى. يتم ذلك عن طريق قياس تركيز البكتيريا في عينات البراز (عدد الخلايا لكل جرام)، ثم ضرب هذا التركيز في الحجم التقديري لمحتويات القولون. هذه الطريقة تواجه تحديات، مثل حقيقة أن كثافة البكتيريا قد تختلف عبر أجزاء القولون، وأن العدد الإجمالي يتقلب. التقنيات الحديثة مثل التسلسل الجيني (Metagenomics) تساعد في تحديد تنوع الأنواع، ولكنها أقل دقة في تحديد الأعداد المطلقة، مما يجعل الجمع بين النمذجة الرياضية والبيانات التجريبية أمراً ضرورياً للوصول إلى أفضل تقدير ممكن.
3. إذا كانت الأعداد متقاربة، فكيف يختلف إجمالي كتلة الميكروبات مقارنة بكتلة الجسم البشري؟
إجابة: هذا سؤال مهم ويسلط الضوء على فارق حاسم. على الرغم من أن عدد الميكروبات في الجسم يضاهي عدد الخلايا البشرية، إلا أن كتلتها الإجمالية ضئيلة جداً مقارنة بكتلة الجسم الكلية. السبب في ذلك هو أن الخلايا البكتيرية أصغر بكثير وأقل كثافة من متوسط الخلية البشرية. على سبيل المثال، خلايا الدم الحمراء، التي تشكل غالبية خلايانا، صغيرة، لكن الخلايا الأخرى مثل خلايا العضلات والدهون أكبر بكثير. يُقدر أن إجمالي كتلة الميكروبيوم في شخص بالغ يزن 70 كجم يتراوح بين 1 إلى 2 كيلوجرام فقط، وهو ما يمثل جزءاً صغيراً من إجمالي وزن الجسم. لذلك، من حيث العدد، نحن متوازنون تقريباً، ولكن من حيث الكتلة والحجم، تظل خلايانا البشرية هي المهيمنة بشكل ساحق.
4. أين تتركز الغالبية العظمى من هذه الميكروبات في الجسم البشري؟
إجابة: الغالبية العظمى من عدد الميكروبات في الجسم تتركز في الجهاز الهضمي، وتحديداً في القولون (الأمعاء الغليظة). تمثل هذه المنطقة بيئة مثالية للميكروبات بسبب بطء حركة الطعام، وتوفر العناصر الغذائية غير المهضومة (خاصة الألياف)، والبيئة منخفضة الأكسجين التي تفضلها العديد من أنواع البكتيريا. يُقدر أن القولون وحده يأوي حوالي 38 تريليون ميكروب، وهو ما يشكل أكثر من 95% من إجمالي الميكروبات في الجسم. ومع ذلك، توجد مجتمعات ميكروبية مهمة في أماكن أخرى، بما في ذلك الجلد، وتجويف الفم، والجهاز التنفسي، والمسالك البولية التناسلية، ولكل منها تكوينها الفريد ووظائفها المتخصصة.
5. هل كل هذه الميكروبات بكتيريا، أم أن هناك أنواعاً أخرى؟
إجابة: في حين أن البكتيريا تشكل الغالبية العظمى من عدد الميكروبات في الجسم، إلا أنها ليست النوع الوحيد. الميكروب��وم البشري هو نظام بيئي متنوع يشمل أيضاً كائنات دقيقة أخرى. من بين هذه الكائنات:
- العتائق (Archaea): وهي كائنات وحيدة الخلية تشبه البكتيريا ولكنها تنتمي إلى مملكة مختلفة، وتوجد بشكل خاص في الأمعاء.
- الفطريات (Fungi): مثل فطر المبيضات (Candida)، وهي تشكل جزءاً طبيعياً من ميكروبيوم الأمعاء والجلد والفم، وتعرف مجتمعة باسم “الميكوبيوم” (Mycobiome).
- الفيروسات: يوجد عدد هائل من الفيروسات في أجسامنا، والغالبية العظمى منها هي العاثيات (Bacteriophages)، وهي فيروسات تصيب البكتيريا وتلعب دوراً مهماً في تنظيم المجتمعات البكتيرية.
على الرغم من أن أعدادها أقل من البكتيريا، إلا أن هذه الكائنات تلعب أدواراً حيوية في الحفاظ على توازن النظام البيئي الميكروبي وصحة الإنسان.
6. كيف يؤثر استخدام المضادات الحيوية على عدد وتوازن الميكروبات في الجسم؟
إجابة: للمضادات الحيوية تأثير عميق ومدمر على الميكروبيوم. تعمل هذه الأدوية كعوامل واسعة الطيف، فهي لا تقتل البكتيريا المسببة للمرض فحسب، بل تقضي أيضاً على أعداد هائلة من البكتيريا المفيدة والمتعايشة. هذا يؤدي إلى انخفاض حاد ومفاجئ في إجمالي عدد الميكروبات في الجسم وتنوعه. يمكن أن يستغرق الميكروبيوم أسابيع أو شهوراً أو حتى سنوات للتعافي، وفي بعض الحالات قد لا يعود أبداً إلى حالته الأصلية، حيث يمكن أن تنقرض بعض الأنواع الحساسة بشكل دائم. هذا الاضطراب، أو الاختلال الميكروبي، يضعف دفاعات الجسم الطبيعية ويخلق فراغاً يمكن أن تستغله مسببات الأمراض الانتهازية، مثل المطثية العسيرة (C. difficile)، لتنمو وتسبب عدوى خطيرة.
7. ما هي أهم وظيفتين يؤديهما هذا العدد الهائل من الميكروبات لصحتنا؟
إجابة: من الصعب حصر وظائف الميكروبيوم في اثنتين فقط، ولكن يمكن القول إن أهم دورين هما: (1) التمثيل الغذائي وهضم العناصر الغذائية، و (2) تطوير وتنظيم جهاز المناعة.
أولاً، تقوم ميكروبات الأمعاء بتفكيك الكربوهيدرات المعقدة (الألياف) التي لا تستطيع إنزيماتنا هضمها، وتنتج مركبات حيوية مثل الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة (SCFAs). هذه المركبات تغذي خلايا القولون، وتقلل الالتهاب، وتؤثر على التمثيل الغذائي في جميع أنحاء الجسم. كما أنها تصنع فيتامينات أساسية مثل فيتامين K.
ثانياً، يلعب التعرض للميكروبات منذ الولادة دوراً حاسماً في “تدريب” جهاز المناعة على التمييز بين الصديق والعدو. يساعد هذا التفاعل على معايرة الاستجابات المناعية، مما يمنع الحساسية وأمراض المناعة الذاتية، ويحافظ على حالة من التوازن المناعي.
8. هل يمكننا تغيير أو تحسين عدد وتكوين الميكروبات في أجسامنا؟
إجابة: نعم، بالتأكيد. إن الميكروبيوم نظام ديناميكي للغاية ويمكن تعديله بشكل كبير من خلال عوامل نمط الحياة، وأبرزها النظام الغذائي. يعتبر النظام الغذائي الغني بالألياف والمتنوع من الفواكه والخضروات والحبوب الكاملة والبقوليات هو الطريقة الأكثر فعالية لزيادة عدد الميكروبات في الجسم وتنوعها، لأنه يوفر الغذاء لمجموعة واسعة من البكتيريا المفيدة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام البروبيوتيك (تناول الميكروبات الحية المفيدة) والبريبيوتيك (تناول الألياف التي تغذي الميكروبات الموجودة) لتعزيز أنواع معينة. ممارسة الرياضة، وإدارة الإجهاد، وتجنب الاستخدام غير الضروري للمضادات الحيوية هي استراتيجيات أخرى مهمة للحفاظ على ميكروبيوم صحي.
9. ما هي العلاقة بين ميكروبات الأمعاء وصحة الدماغ والمزاج؟
إجابة: العلاقة بين الأمعاء والدماغ، المعروفة بـ “محور الأمعاء-الدماغ”، هي مجال بحثي مزدهر. تتواصل ميكروبات الأمعاء مع الدماغ من خلال مسارات متعددة ومعقدة، بما في ذلك العصب المبهم، وإنتاج النواقل العصبية (مثل السيروتونين، الذي يتم إنتاج معظمه في الأمعاء)، وتنظيم الاستجابات المناعية والالتهابية التي يمكن أن تؤثر على وظائف الدماغ. تشير الأبحاث إلى أن الاختلال في عدد الميكروبات في الجسم وتكوينها قد يرتبط بحالات مثل القلق، والاكتئاب، وحتى اضطرابات النمو العصبي مثل التوحد. هذا يفتح الباب أمام إمكانية استخدام العلاجات التي تستهدف الميكروبيوم، مثل البروبيوتيك النفسي (Psychobiotics)، لتحسين الصحة العقلية.
10. هل يرث الشخص الميكروبيوم الخاص به من والديه؟
إجابة: يرث الشخص الميكروبيوم الأولي من الأم أثناء الولادة (من خلال قناة الولادة) ومن خلال الرضاعة الطبيعية، ولكن هذا يعتبر “إرثاً بيئياً” أكثر من كونه وراثة جينية مباشرة. في حين أن جيناتنا البشرية يمكن أن تؤثر على البيئة داخل أمعائنا، مما قد يفضل نمو أنواع معينة من الميكروبات، إلا أن هذا التأثير يعتبر صغيراً نسبياً مقارنة بتأثير العوامل البيئية ونمط الحياة. عوامل مثل النظام الغذائي، والأدوية، والموقع الجغرافي، والتعرض للبيئة الطبيعية هي المحددات الرئيسية لتكوين الميكروبيوم لدى الشخص البالغ. لذلك، حتى التوائم المتطابقة الذين لديهم نفس الجينات سيطورون ميكروبيومات مختلفة بشكل كبير إذا عاشوا في بيئات مختلفة واتبعوا أنماط حياة مختلفة.