مجرة درب التبانة: هيكلها، مكوناتها، وموقعنا ضمن أذرعها اللولبية

تُعد مجرة درب التبانة (Milky Way Galaxy) موطننا الكوني، وهي ليست مجرد شريط ضوئي خافت يزين سماء الليل الصافية، بل هي بنية كونية هائلة ومعقدة تضم مئات المليارات من النجوم، وأنظمة كوكبية لا حصر لها، وسحباً غبارية وغازية عملاقة، ومكونات غامضة لا تزال تحير العلماء. إن فهمنا لهذه المجرة يمثل حجر الزاوية في معرفتنا بالكون وموقعنا فيه. هذه المقالة تقدم تحليلاً أكاديمياً شاملاً لهيكل مجرة درب التبانة ومكوناتها وديناميكيتها ومستقبلها، مع تسليط الضوء على أحدث الاكتشافات في هذا المجال.
أصل التسمية والمنظور التاريخي
قبل الغوص في التفاصيل العلمية، من المهم فهم السياق التاريخي والثقافي الذي أحاط بمراقبة مجرة درب التبانة. الاسم العربي “درب التبانة” يأتي من تشبيه الشريط الضوئي في السماء بالتبن المتناثر الذي كان يسقط من أكياس الفلاحين وهم ينقلونه ليلاً. أما الاسم الإنجليزي “Milky Way”، فيعود أصله إلى الأساطير الإغريقية، حيث كان يُعتقد أنه نهر من الحليب (Lactea Via باللاتينية) نتج عن الآلهة.
لفترة طويلة من تاريخ البشرية، كانت طبيعة هذا الشريط الضوئي لغزاً. كان الفيلسوف اليوناني ديموقريطوس (Democritus) من أوائل من اقترحوا أنه يتكون من عدد هائل من النجوم البعيدة التي لا يمكن تمييزها بالعين المجردة. إلا أن هذا الفهم ظل مجرد فرضية حتى عام ١٦١٠، عندما وجه عالم الفلك الإيطالي غاليليو غاليلي (Galileo Galilei) تلسكوبه البدائي نحو السماء. لقد كانت لحظة فارقة في تاريخ علم الفلك، حيث كشف تلسكوبه أن هذا الشريط اللبني هو في الحقيقة تجمع ضخم لنجوم فردية. لقد كانت هذه الملاحظة بداية الرحلة العلمية لفهم بنية وهيكل مجرة درب التبانة.
في القرن الثامن عشر، قام الفلكي ويليام هيرشل (William Herschel) وأخته كارولين هيرشل (Caroline Herschel) بأول محاولة منهجية لرسم خريطة مجرة درب التبانة. من خلال عد النجوم في اتجاهات مختلفة من السماء، استنتجا أن النظام الشمسي يقع بالقرب من مركز بنية قرصية الشكل. ورغم أن استنتاجهما كان غير دقيق بسبب عدم أخذهما في الحسبان امتصاص الغبار النجمي للضوء، إلا أن عملهما وضع الأساس لدراسة بنية مجرتنا. لم يتضح موقعنا الحقيقي الهامشي ضمن مجرة درب التبانة إلا في أوائل القرن العشرين بفضل أعمال هارلو شابلي (Harlow Shapley) الذي درس توزيع التجمعات النجمية الكروية.
الهيكل والبنية المعمارية لمجرة درب التبانة
تُصنّف مجرة درب التبانة على أنها مجرة حلزونية ضلعية أو قضيبية (Barred Spiral Galaxy)، وتحديداً من النوع (SBc). هذا يعني أنها تتكون من قرص مسطح دوار يحتوي على أذرع لولبية، ومركز منتفخ يبرز منه قضيب نجمي كثيف. يبلغ قطر قرص مجرة درب التبانة النجمي ما بين ١٠٠,٠٠٠ و ١٢٠,٠٠٠ سنة ضوئية، بينما يُقدر سمكه بحوالي ١,٠٠٠ سنة ضوئية في المتوسط. تتكون هذه البنية المعمارية المعقدة من عدة أجزاء رئيسية:
١. المركز المجري والثقب الأسود الهائل (The Galactic Center and the Supermassive Black Hole):
يقع قلب مجرة درب التبانة في اتجاه كوكبة الرامي (Sagittarius)، وهو منطقة نشطة وكثيفة للغاية، محجوبة عن رؤيتنا المباشرة في نطاق الضوء المرئي بسبب السحب الهائلة من الغاز والغبار. لكن باستخدام التلسكوبات التي ترصد الأشعة تحت الحمراء والراديوية والأشعة السينية، تمكن العلماء من اختراق هذا الحجاب وكشف أسرار المركز.
في المركز الدقيق لـ مجرة درب التبانة، يكمن ثقب أسود فائق الكتلة يُعرف باسم “الرامي أ*” (Sagittarius A). تم تأكيد وجوده من خلال مراقبة مدارات النجوم القريبة منه على مدى عقود، حيث تدور هذه النجوم بسرعات هائلة حول نقطة مركزية فارغة. تُقدر كتلة هذا الثقب الأسود بحوالي ٤.٣ مليون مرة كتلة الشمس، وكلها مضغوطة في حجم صغير جداً. وجود هذا الكيان الهائل يلعب دوراً محورياً في ديناميكية النجوم والغاز في قلب مجرة درب التبانة.
٢. الانتفاخ المركزي (The Galactic Bulge):
يحيط بالمركز المجري هيكل كروي مضغوط يُعرف بالانتفاخ المركزي. يمتد هذا الانتفاخ لآلاف السنوات الضوئية ويتكون بشكل أساسي من نجوم قديمة، معظمها عمالقة حمراء، مما يمنحه لوناً يميل إلى الصفرة والاحمرار. هذه النجوم تتحرك في مدارات عشوائية ومائلة، على عكس الحركة المنظمة في القرص. تشير الدراسات الحديثة إلى أن الانتفاخ في مجرة درب التبانة ليس كروياً تماماً، بل له شكل يشبه حبة الفول السوداني أو شكل X، وهو ما يدعم فكرة وجود قضيب نجمي بارز يمر عبر مركز المجرة. هذا القضيب المركزي يؤثر بشكل كبير على توزيع المادة وديناميكيات الحركة في المناطق الداخلية من مجرة درب التبانة.
٣. الأذرع اللولبية (The Spiral Arms):
تعتبر الأذرع اللولبية الميزة الأكثر شهرة في المجرات الحلزونية. هذه الأذرع ليست هياكل مادية صلبة، بل هي “موجات كثافة” (Density Waves) تنتشر عبر قرص مجرة درب التبانة مثل موجات الصوت في الهواء. عندما تمر سحب الغاز والغبار عبر هذه الموجات، يتم ضغطها بشدة، مما يؤدي إلى انهيارها وتكوين نجوم جديدة بكثافة. لهذا السبب، تظهر الأذرع اللولبية لامعة ومزرقة، لأنها غنية بالنجوم الفتية الساخنة واللامعة والسدم المضيئة.
تضم مجرة درب التبانة ذراعين رئيسيتين تنبثقان من طرفي القضيب المركزي، وهما ذراع الترس-قنطورس (Scutum-Centaurus Arm) وذراع فرساوس (Perseus Arm). بالإضافة إلى ذلك، هناك أذرع ثانوية أقل بروزاً، مثل ذراع الرامي (Sagittarius Arm) وذراع القاعدة (Norma Arm). يقع نظامنا الشمسي في ذراع فرعية صغيرة تُعرف باسم ذراع الجبار أو نتوء الجبار (Orion Arm/Spur)، وهي تقع بين ذراعي الرامي وفرساوس الرئيسيتين. هذا الموقع الهادئ نسبياً يضعنا بعيداً عن البيئات العنيفة في الأذرع الرئيسية ومركز مجرة درب التبانة.
٤. القرص المجري (The Galactic Disk):
يحتوي قرص مجرة درب التبانة على معظم الغاز والغبار والنجوم الشابة في المجرة. يمكن تقسيمه هيكلياً إلى قسمين:
- القرص الرقيق (Thin Disk): يبلغ سمكه حوالي ١,٠٠٠ سنة ضوئية ويحتوي على الغالبية العظمى من النجوم الشابة (من النوع الأول Population I) والغبار والغاز. هذا هو الموقع الذي تحدث فيه معظم عمليات تكوين النجوم النشطة حالياً في مجرة درب التبانة.
- القرص السميك (Thick Disk): هو هيكل أقدم وأكثر انتفاخاً يحيط بالقرص الرقيق، ويبلغ سمكه عدة آلاف من السنوات الضوئية. يتكون بشكل أساسي من نجوم أقدم، وهي أقل غنى بالمعادن من نجوم القرص الرقيق.
٥. الهالة المجرية (The Galactic Halo):
تحيط بقرص وانتفاخ مجرة درب التبانة هالة كروية ضخمة وخافتة جداً. تمتد هذه الهالة لمئات الآلاف من السنوات الضوئية في كل الاتجاهات. تتكون الهالة من مكونين رئيسيين:
- الهالة النجمية: تحتوي على نجوم قديمة جداً (من النوع الثاني Population II) متناثرة بشكل واسع، بالإضافة إلى حوالي ١٥٠ تجمعاً نجمياً كروياً (Globular Clusters). هذه التجمعات هي عبارة عن كرات كثيفة تضم مئات الآلاف من النجوم القديمة التي تشكلت في المراحل الأولى من تاريخ مجرة درب التبانة.
- هالة المادة المظلمة: يُعتقد أن المكون الأكبر لكتلة الهالة، بل وكتلة مجرة درب التبانة بأكملها، هو المادة المظلمة (Dark Matter). هذه المادة الغامضة لا تصدر أو تتفاعل مع الضوء، ولكن وجودها يُستدل عليه من خلال تأثير جاذبيتها القوي على حركة النجوم والغاز في المجرة.
المكونات الأساسية لمجرة درب التبانة
تتألف مجرة درب التبانة من مزيج معقد من المادة والطاقة، يمكن تصنيف مكوناتها الرئيسية على النحو التالي:
١. النجوم:
النجوم هي المكون الأكثر وضوحاً في مجرة درب التبانة. يُقدر عددها بما يتراوح بين ١٠٠ مليار و ٤٠٠ مليار نجم. تختلف هذه النجوم بشكل كبير في الحجم والكتلة ودرجة الحرارة واللون والعمر. يصنف علماء الفلك النجوم إلى “أجيال” بناءً على محتواها من العناصر الأثقل من الهيدروجين والهيليوم (والتي يسميها الفلكيون “المعادن”).
- نجوم النوع الأول (Population I Stars): هي نجوم شابة نسبياً وغنية بالمعادن. توجد بشكل أساسي في القرص الرقيق والأذرع اللولبية. الشمس هي مثال نموذجي لنجم من النوع الأول.
- نجوم النوع الثاني (Population II Stars): هي نجوم قديمة جداً وفقيرة بالمعادن. توجد بشكل رئيسي في الانتفاخ المركزي والهالة والتجمعات الكروية. تشكلت هذه النجوم في وقت مبكر من تاريخ الكون، عندما لم تكن العناصر الثقيلة قد تكونت بعد بوفرة داخل الأجيال السابقة من النجوم. دراسة هذه النجوم تقدم لمحة عن الظروف البدائية لـ مجرة درب التبانة.
٢. الوسط بين النجمي (The Interstellar Medium – ISM):
هو المادة المنتشرة في الفضاء بين النجوم داخل مجرة درب التبانة. على الرغم من أن كثافته منخفضة للغاية، إلا أنه يلعب دوراً حاسماً في دورة حياة النجوم والمجرة. يتكون من:
- الغاز: يشكل حوالي ٩٩% من الوسط بين النجمي، معظمه من الهيدروجين (حوالي ٧٥%) والهيليوم (حوالي ٢٥%)، مع كميات ضئيلة من العناصر الأخرى. يوجد الغاز في حالات مختلفة: غاز بارد وجزيئي (Molecular Clouds) حيث تتشكل النجوم، وغاز ذري محايد، وغاز متأين ساخن (بلازما).
- الغبار: يشكل حوالي ١% المتبقية، وهو عبارة عن حبيبات صلبة صغيرة من مركبات السيليكات والكربون. على الرغم من ندرته، فإن الغبار النجمي فعال جداً في امتصاص وتشتيت الضوء المرئي، مما يجعل أجزاء كبيرة من مجرة درب التبانة محجوبة عن أنظارنا.
٣. المادة المظلمة (Dark Matter):
هذا هو المكون الأكثر غموضاً وهيمنة في مجرة درب التبانة. تشير الأدلة القوية من منحنيات دوران المجرة إلى أن المادة المرئية (النجوم والغاز والغبار) لا تشكل سوى جزء صغير (حوالي ١٠-١٥%) من إجمالي كتلة المجرة. الباقي، أي حوالي ٨٥-٩٠%، هو مادة مظلمة. تمارس هذه المادة قوة جاذبية هائلة تمنع النجوم في أطراف مجرة درب التبانة من الإفلات والتحليق بعيداً في الفضاء، مما يحافظ على تماسك المجرة. طبيعة هذه المادة لا تزال واحدة من أكبر الألغاز في الفيزياء الحديثة.
موقعنا في مجرة درب التبانة
يقع نظامنا الشمسي على بعد حوالي ٢٧,٠٠٠ سنة ضوئية من المركز المجري، داخل ذراع الجبار (Orion Arm)، وهي بنية فرعية تقع بين ذراعي الرامي وفرساوس. نحن موجودون في القرص الرقيق، على بعد حوالي ٥٠ سنة ضوئية فوق المستوى المجري الرئيسي. هذا الموقع له أهمية كبيرة، فهو يضعنا في منطقة هادئة نسبياً تُعرف بـ “المنطقة المجرية الصالحة للحياة” (Galactic Habitable Zone). هذه المنطقة بعيدة بما يكفي عن الإشعاع العنيف والانفجارات النجمية المتكررة في مركز مجرة درب التبانة، ولكنها قريبة بما يكفي لتحتوي على تركيز كافٍ من العناصر الثقيلة اللازمة لتكوين الكواكب الصخرية.
تدور الشمس، ومعها كامل النظام الشمسي، حول مركز مجرة درب التبانة بسرعة تقدر بحوالي ٢٢٠ كيلومتراً في الثانية (أو حوالي ٨٠٠,٠٠٠ كيلومتر في الساعة). وبهذه السرعة، يستغرق نظامنا الشمسي حوالي ٢٣٠ مليون سنة لإكمال دورة واحدة كاملة حول المركز المجري. تُعرف هذه الفترة بـ “السنة المجرية” أو “السنة الكونية”.
ديناميكية وحركة مجرة درب التبانة
مجرة درب التبانة ليست كياناً ثابتاً، بل هي نظام ديناميكي معقد في حركة مستمرة. السمة الأبرز لحركتها هي الدوران التفاضلي (Differential Rotation)، مما يعني أن الأجزاء المختلفة من القرص تدور بسرعات مختلفة. الأجزاء الداخلية تدور أسرع من الأجزاء الخارجية. ومع ذلك، فإن الملاحظات كشفت عن مفاجأة: سرعة دوران النجوم لا تنخفض كما هو متوقع مع زيادة المسافة من المركز، بل تظل ثابتة تقريباً حتى في الحواف الخارجية للمجرة. هذه الملاحظة، المعروفة بـ “مشكلة منحنى الدوران المجري” (Galaxy Rotation Curve Problem)، هي الدليل الأكثر إقناعاً على وجود هالة ضخمة من المادة المظلمة تحيط بـ مجرة درب التبانة وتوفر الجاذبية الإضافية اللازمة لتفسير هذه السرعات العالية.
بالإضافة إلى دورانها الداخلي، فإن مجرة درب التبانة بأكملها تتحرك عبر الفضاء. هي جزء من مجموعة صغيرة من المجرات تُعرف بـ “المجموعة المحلية” (Local Group)، والتي تضم حوالي ٥٠ مجرة، بما في ذلك مجرة المرأة المسلسلة (Andromeda Galaxy – M31) ومجرة المثلث (Triangulum Galaxy – M33). تنجذب كل هذه المجرات بفعل الجاذبية المتبادلة، وتتحرك مجرة درب التبانة حالياً نحو مجرة المرأة المسلسلة بسرعة تقارب ١١٠ كيلومترات في الثانية.
المستقبل المتوقع لمجرة درب التبانة
مستقبل مجرة درب التبانة على المدى الطويل سيتم تحديده من خلال هذا التقارب مع جارتها الكبرى، مجرة المرأة المسلسلة. بناءً على الحسابات الدقيقة لحركتهما، يتوقع علماء الفلك أن المجرتين في مسار تصادمي، ومن المقرر أن تبدأ عملية الاندماج في غضون حوالي ٤.٥ مليار سنة.
على الرغم من أن كلمة “تصادم” تبدو عنيفة، إلا أن المسافات الشاسعة بين النجوم تعني أن احتمالية اصطدام نجمين ببعضهما ضئيلة للغاية. بدلاً من ذلك، سيكون الحدث أشبه برقصة جاذبية كونية هائلة، حيث ستمر المجرتان عبر بعضهما البعض عدة مرات، مما يؤدي إلى تشويه هياكلهما اللولبية بفعل قوى المد والجزر، وسحب أذرع طويلة من النجوم والغاز. ستؤدي هذه العملية إلى موجة هائلة من تكوين النجوم حيث يتم ضغط سحب الغاز. في النهاية، بعد مئات الملايين من السنين، ستندمج مجرة درب التبانة ومجرة المرأة المسلسلة لتشكلا مجرة إهليلجية عملاقة جديدة، أطلق عليها البعض اسم “ميلكوميدا” (Milkomeda).
طرق رصد ودراسة مجرة درب التبانة
دراسة مجرة درب التبانة تمثل تحدياً فريداً لأننا نقع بداخلها. هذا يشبه محاولة رسم خريطة لغابة وأنت تقف في وسطها، حيث تحجب الأشجار القريبة رؤيتك للأشجار البعيدة. في حالتنا، فإن سحب الغبار الكثيفة في قرص المجرة تحجب الضوء المرئي القادم من المركز والأجزاء البعيدة من المجرة.
للتغلب على هذه العقبة، يعتمد علماء الفلك على رصد الكون بأطوال موجية مختلفة من الطيف الكهرومغناطيسي، والتي يمكنها اختراق الغبار:
- علم الفلك الراديوي (Radio Astronomy): موجات الراديو، خاصة تلك المنبعثة من ذرات الهيدروجين المحايد (خط ٢١ سم)، لا تتأثر بالغبار. وقد سمح ذلك برسم خرائط مفصلة لتوزيع الغاز في الأذرع اللولبية وكشف البنية العامة لـ مجرة درب التبانة.
- علم الفلك بالأشعة تحت الحمراء (Infrared Astronomy): الأشعة تحت الحمراء تخترق الغبار بشكل أفضل من الضوء المرئي. تلسكوبات مثل تلسكوب سبيتزر الفضائي وتلسكوب جيمس ويب الفضائي (JWST) مكنتنا من رؤية النجوم في الانتفاخ المركزي والمناطق المحجوبة الأخرى.
- القياسات الفلكية الدقيقة (Astrometry): مهمات مثل القمر الصناعي “غايا” (Gaia) التابع لوكالة الفضاء الأوروبية تقوم بقياس مواقع وحركات وملامح أكثر من مليار نجم في مجرة درب التبانة بدقة غير مسبوقة. هذه البيانات تحدث ثورة في فهمنا لهيكل المجرة وديناميكيتها وتاريخها.
الخاتمة
إن مجرة درب التبانة هي أكثر بكثير من مجرد منزلنا؛ إنها مختبر كوني هائل يسمح لنا بدراسة عمليات تكوين النجوم والكواكب وديناميكيات المجرات. من الثقب الأسود الهائل في مركزها، إلى الأذرع اللولبية النابضة بالحياة، والهالة الشبحية من المادة المظلمة، تمثل مجرة درب التبانة نظاماً معقداً وجميلاً لا يزال يكشف عن أسراره تدريجياً. كل اكتشاف جديد لا يعمق فهمنا لـ مجرة درب التبانة فحسب، بل يوسع أيضاً آفاق معرفتنا بالكون ككل. وبينما نواصل استكشاف هذا البحر الكوني الشاسع، تظل دراسة مجرة درب التبانة رحلة لاكتشاف الذات، لأنها في النهاية قصة أصلنا ومصيرنا الكوني. إن روعة مجرة درب التبانة تذكرنا دائماً بضخامة الكون وجماله الذي لا ينضب.
الأسئلة الشائعة
١. ما هو التصنيف الدقيق لمجرة درب التبانة، وماذا يعني هذا التصنيف؟
تُصنّف مجرة درب التبانة فلكياً على أنها مجرة حلزونية ضلعية أو قضيبية، وتحديداً من النوع (SBc) وفقاً لتصنيف هابل للمجرات. هذا التصنيف المعقد يصف بدقة بنيتها المعمارية:
- “S” (Spiral): يشير إلى أنها مجرة ذات بنية قرصية دوارة، حيث تتركز معظم النجوم والغاز والغبار في هذا القرص المسطح.
- “B” (Barred): يعني أنها تحتوي على “قضيب” أو “ضلع” نجمي مركزي، وهو بنية مستطيلة كثيفة من النجوم تمتد عبر الانتفاخ المركزي. يُعتقد أن هذا القضيب يلعب دوراً مهماً في توجيه الغاز نحو المركز، مما قد يؤثر على معدل تكوين النجوم والنشاط في قلب المجرة.
- “c” (Type c): هذا الحرف الصغير يصف درجة انفراج الأذرع اللولبية. في مقياس يتدرج من “a” (أذرع ضيقة وملتفة بإحكام) إلى “d” (أذرع مفتوحة جداً وغير محددة)، يشير التصنيف “c” إلى أن أذرع مجرة درب التبانة مفتوحة ومنفرجة نسبياً، وليست ملتفة بإحكام حول المركز.
٢. كم يبلغ حجم مجرة درب التبانة وعدد النجوم فيها؟
يُعد حجم مجرة درب التبانة هائلاً بمقاييسنا البشرية. يبلغ قطر القرص النجمي المرئي ما بين ١٠٠,٠٠٠ إلى ١٢٠,٠٠٠ سنة ضوئية، ويصل سمكه في المتوسط إلى حوالي ١,٠٠٠ سنة ضوئية، على الرغم من أنه يزداد سماكة بالقرب من الانتفاخ المركزي. أما من حيث عدد النجوم، فالتقديرات تتراوح بشكل واسع بين ١٠٠ مليار و ٤٠٠ مليار نجم. هذا النطاق الواسع يعود إلى صعوبة إحصاء النجوم الخافتة والصغيرة مثل الأقزام الحمراء، والتي يُعتقد أنها تشكل الغالبية العظمى من النجوم في المجرة. والأهم من ذلك، أن المادة المرئية لا تشكل سوى جزء صغير من كتلة المجرة الإجمالية؛ فالهالة الضخمة من المادة المظلمة التي تحيط بـ مجرة درب التبانة تمتد إلى قطر قد يصل إلى مليوني سنة ضوئية، مما يجعل الحجم الحقيقي للمجرة أكبر بكثير من قرصها المرئي.
٣. أين يقع نظامنا الشمسي بالضبط داخل مجرة درب التبانة؟
يقع نظامنا الشمسي في موقع هامشي نسبيًا داخل مجرة درب التبانة. نحن نتواجد على بعد حوالي ٢٧,٠٠٠ سنة ضوئية من المركز المجري، أي في منتصف المسافة تقريباً بين المركز وحافة القرص النجمي. نحن جزء من القرص الرقيق للمجرة، وتحديداً داخل ذراع لولبية فرعية تُعرف بـ “ذراع الجبار” أو “نتوء الجبار” (Orion Arm/Spur). هذه الذراع الصغيرة تقع بين ذراعين رئيسيتين هما ذراع الرامي (Sagittarius Arm) باتجاه مركز المجرة، وذراع فرساوس (Perseus Arm) باتجاه الحافة الخارجية. هذا الموقع الهادئ يعتبر مثالياً، فهو يضعنا بعيداً عن البيئة القاسية عالية الإشعاع في المركز المجري والمناطق المزدحمة في الأذرع الرئيسية، مما يوفر بيئة مستقرة نسبياً.
٤. ما الذي يكمن في المركز الدقيق لمجرة درب التبانة؟
في المركز الديناميكي لـ مجرة درب التبانة، يوجد ثقب أسود فائق الكتلة (Supermassive Black Hole) يُعرف باسم “الرامي أ*” (Sagittarius A). تم تأكيد وجوده وقياس كتلته بدقة من خلال تتبع مدارات النجوم القريبة منه، مثل النجم S2، على مدى عقود. تدور هذه النجوم بسرعات هائلة تصل إلى آلاف الكيلومترات في الثانية حول نقطة مركزية غير مرئية، ولا يمكن تفسير هذه الحركة إلا بوجود جسم ذي كتلة هائلة وجاذبية قصوى. تُقدر كتلة “الرامي أ*” بحوالي ٤.٣ مليون ضعف كتلة شمسنا، وكل هذه الكتلة مضغوطة في حجم أصغر من مدار كوكب عطارد. يلعب هذا الثقب الأسود دوراً محورياً في تثبيت ديناميكيات النجوم والغاز في قلب مجرة درب التبانة.
٥. هل الأذرع اللولبية لمجرة درب التبانة عبارة عن هياكل مادية ثابتة؟
لا، الأذرع اللولبية ليست هياكل مادية ثابتة تتحرك فيها النجوم كما لو كانت مثبتة عليها. النظرية الأكثر قبولاً حالياً هي “نظرية موجات الكثافة” (Density Wave Theory). وفقاً لهذه النظرية، فإن الأذرع هي نمط من الكثافة الأعلى ينتشر عبر قرص مجرة درب التبانة بسرعة أبطأ من سرعة دوران النجوم والغاز. يمكن تشبيهها بموجة صوتية أو ببطء حركة السير على طريق سريع؛ السيارات (النجوم) تتحرك عبر منطقة الازدحام (الذراع) وتخرج منها، لكن منطقة الازدحام نفسها تظل موجودة وتتحرك ببطء. عندما تمر سحب الغاز الكثيفة عبر هذه الموجة، يتم ضغطها بشدة، مما يحفز انهيارها وتكوين أجيال جديدة من النجوم. هذا هو السبب في أن الأذرع اللولبية تظهر لامعة ومزرقة، لأنها مواقع ولادة النجوم الفتية والساخنة والمضيئة.
٦. لماذا لا نستطيع رؤية مركز مجرة درب التبانة بالعين المجردة أو بالتلسكوبات البصرية؟
السبب الرئيسي هو ظاهرة تُعرف بـ “الانطفاء بين النجمي” (Interstellar Extinction). يمتلئ قرص مجرة درب التبانة، خاصة في المستوى الذي نوجد فيه، بكميات هائلة من الغاز والغبار الكوني. هذه السحب الغبارية الكثيفة التي تقع بيننا وبين المركز المجري تمتص وتشتت الضوء المرئي بفعالية شديدة. حجم الغبار هائل لدرجة أنه يحجب ما يقرب من ١٠٠% من الفوتونات المرئية القادمة من المركز، مما يجعله غير مرئي تمامًا في نطاق الضوء المرئي. للتغلب على هذه المشكلة، يستخدم علماء الفلك أطوالاً موجية أطول يمكنها اختراق هذا الغبار، مثل الأشعة تحت الحمراء، وموجات الراديو، والأشعة السينية، والتي سمحت لنا بدراسة قلب مجرة درب التبانة وكشف أسراره.
٧. ما هو الدور الذي تلعبه المادة المظلمة في مجرة درب التبانة؟
تلعب المادة المظلمة دوراً جاذبياً حاسماً في الحفاظ على تماسك واستقرار مجرة درب التبانة. الدليل الأقوى على وجودها يأتي من “منحنى دوران المجرة”. فلكياً، كان من المتوقع أن تدور النجوم في حواف المجرة بشكل أبطأ بكثير من النجوم القريبة من المركز (تماماً كما تدور الكواكب الخارجية في نظامنا الشمسي بشكل أبطأ من الكواكب الداخلية). لكن الملاحظات أظهرت أن سرعة دوران النجوم تظل ثابتة تقريباً حتى في الأطراف البعيدة. لا يمكن تفسير هذه السرعات العالية بالجاذبية الناتجة عن المادة المرئية وحدها (النجوم والغاز). لذلك، يُستنتج وجود هالة ضخمة وغير مرئية من المادة المظلمة تحيط بـ مجرة درب التبانة وتوفر الجاذبية الإضافية اللازمة لمنع هذه النجوم من الإفلات والتحليق في الفضاء بين المجرات. تشير التقديرات إلى أن المادة المظلمة تشكل حوالي ٨٥-٩٠% من إجمالي كتلة المجرة.
٨. هل صحيح أن مجرة درب التبانة ستصطدم بمجرة المرأة المسلسلة (Andromeda)؟
نعم، استنادًا إلى القياسات الدقيقة لسرعة وحركة كلتا المجرتين، فإن مجرة درب التبانة ومجرة المرأة المسلسلة (M31)، أكبر مجرة في مجموعتنا المحلية، تتجهان نحو بعضهما البعض بسرعة تقارب ١١٠ كيلومترات في الثانية. من المتوقع أن يبدأ التصادم والاندماج في غضون حوالي ٤.٥ مليار سنة. لن يكون هذا “تصادماً” بالمعنى التقليدي، حيث إن المسافات بين النجوم شاسعة جدًا لدرجة أن احتمالية اصطدام نجمين ضئيلة للغاية. بدلاً من ذلك، سيكون اندماجاً جاذبياً هائلاً. ستمر المجرتان عبر بعضهما البعض عدة مرات، مما يؤدي إلى تشويه هياكلهما الحلزونية بفعل قوى المد والجزر، وإثارة موجة هائلة من تكون النجوم. في النهاية، ستندمجان لتشكلا مجرة إهليلجية عملاقة جديدة.
٩. ما هي سرعة حركة نظامنا الشمسي حول مركز مجرة درب التبانة؟
يدور نظامنا الشمسي حول مركز مجرة درب التبانة بسرعة مدارية هائلة تقدر بحوالي ٢٢٠ كيلومتراً في الثانية، أو ما يعادل حوالي ٨٠٠,٠٠٠ كيلومتر في الساعة. على الرغم من هذه السرعة الفائقة، فإن محيط المدار شاسع جدًا لدرجة أن الشمس تستغرق فترة تقدر بحوالي ٢٣٠ مليون سنة لإكمال دورة واحدة كاملة حول المركز المجري. تُعرف هذه الفترة الزمنية بـ “السنة المجرية” أو “السنة الكونية”. هذا يعني أنه منذ تشكل الشمس قبل حوالي ٤.٦ مليار سنة، أكملت حوالي ٢٠ دورة فقط حول مركز مجرة درب التبانة.
١٠. كم يبلغ عمر مجرة درب التبانة وكيف تم تحديده؟
يُقدر عمر مجرة درب التبانة بحوالي ١٣.٦ مليار سنة، مما يجعلها واحدة من أقدم المجرات في الكون المعروف. يتم تحديد هذا العمر من خلال دراسة أعمار أقدم المكونات فيها. يستخدم علماء الفلك بشكل أساسي “التجمعات النجمية الكروية” (Globular Clusters)، وهي مجموعات كثيفة من مئات الآلاف من النجوم القديمة جدًا التي تدور في هالة المجرة. عن طريق تحليل ضوء هذه النجوم وتحديد مرحلة حياتها، يمكن تقدير عمرها بدقة. تشير أعمار أقدم هذه التجمعات إلى أنها تشكلت بعد فترة وجيزة من الانفجار العظيم. لم تكن مجرة درب التبانة دائمًا في شكلها الحالي؛ بل نمت وتطورت على مدى مليارات السنين من خلال اندماج مجرات قزمة أصغر.