ماذا لو ذابت جميع القمم الجليدية في القطبين وغرينلاند؟

تمثل القمم الجليدية (Ice Caps) في القطبين وغرينلاند أكبر خزانات للمياه العذبة على كوكب الأرض، وهي بمثابة أجهزة تنظيم حرارية عملاقة تلعب دوراً حيوياً في استقرار النظام المناخي العالمي. إن طرح سؤال “ماذا لو ذابت جميع هذه القمم الجليدية؟” لا يُعد مجرد تمرين فكري في الخيال العلمي، بل هو استقراء علمي منطقي للاتجاهات الحالية، ونافذة نطل منها على مستقبل كارثي محتمل إذا لم يتم تدارك الأوضاع. إن الذوبان الكامل لهذه الصفائح الجليدية الهائلة سيطلق سلسلة من التأثيرات المتتالية والمتشابكة التي ستعيد تشكيل جغرافية الكوكب، ومناخه، وأنظمته البيئية، بل وحتى الحضارة الإنسانية كما نعرفها. تتناول هذه المقالة الأبعاد المختلفة لهذه الكارثة المحتملة، بدءاً من الارتفاع الهائل في مستوى سطح البحر، مروراً بالاضطرابات المناخية العنيفة والتغيرات الجيولوجية، وصولاً إلى الانهيار البيئي والتداعيات البشرية والجيوسياسية التي ستغير وجه العالم إلى الأبد. إن فهم حجم التهديد الذي يمثله ذوبان القمم الجليدية هو الخطوة الأولى نحو تقدير أهمية الحفاظ عليها.
الوضع الحالي للقمم الجليدية: جرس إنذار يدق في صمت
قبل الخوض في سيناريو الذوبان الكامل، من الضروري فهم الوضع الراهن الذي تعيشه القمم الجليدية في العالم. وفقاً لتقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، فإن الصفائح الجليدية في غرينلاند والقارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) تفقد كتلتها بمعدل متسارع. ففي غرينلاند، يُقدر فقدان الجليد بمئات المليارات من الأطنان سنوياً، بينما تُظهر القارة القطبية الجنوبية، خاصة في جزئها الغربي، علامات مقلقة على عدم الاستقرار. هذا الذوبان لا يقتصر على السطح بفعل ارتفاع درجات حرارة الهواء، بل يحدث أيضاً من الأسفل بسبب ارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات التي تتسرب تحت القمم الجليدية العائمة، مما يسرّع من انزلاقها نحو البحر.
من المهم التمييز بين نوعين من الجليد: الجليد البحري (Sea Ice)، وهو مياه محيط متجمدة تطفو على السطح، وجليد الصفائح القارية (Land Ice)، وهو الجليد المتراكم على اليابسة والذي يشكل القمم الجليدية في غرينلاند وأنتاركتيكا. ذوبان الجليد البحري لا يساهم بشكل مباشر في رفع مستوى سطح البحر (بنفس مبدأ ذوبان مكعب ثلج في كوب ماء)، لكنه يقلل من قدرة الأرض على عكس أشعة الشمس (تأثير البياض أو الألبيدو)، مما يفاقم الاحترار. أما الكارثة الحقيقية فتكمن في ذوبان الجليد القاري، حيث إن كل قطرة ماء ناتجة عن ذوبان هذه القمم الجليدية هي إضافة صافية إلى حجم مياه المحيطات. إن استمرار المعدلات الحالية يشير إلى أن مستقبل القمم الجليدية بات على المحك، وأن السيناريو الافتراضي الذي نناقشه يزداد قرباً من الواقع مع مرور كل عقد. إن فهم الديناميكيات المعقدة التي تحكم استقرار القمم الجليدية أمر بالغ الأهمية لتقدير حجم التغيير القادم.
ارتفاع مستوى سطح البحر: الطوفان العالمي الجديد
التأثير المباشر والأكثر دراماتيكية لذوبان جميع القمم الجليدية هو الارتفاع الكارثي في مستوى سطح البحر العالمي. تحتوي صفيحة غرينلاند الجليدية على كمية من المياه كافية لرفع مستوى سطح البحر بحوالي 7.4 أمتار. أما صفيحة أنتاركتيكا الجليدية، وهي الأضخم على الإطلاق، فتحتوي على ما يكفي لرفعه بحوالي 58 متراً. وبإضافة الأنهار الجليدية الأخرى حول العالم، فإن الذوبان الكامل لجميع القمم الجليدية القارية سيؤدي إلى ارتفاع إجمالي في مستوى سطح البحر يُقدر بحوالي 66-70 متراً. هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل هو حكم بالإعدام على الجغرافيا الساحلية للكوكب.
سيؤدي هذا الارتفاع إلى غمر جميع المدن الساحلية الكبرى في العالم بلا استثناء. مدن مثل ميامي، ونيويورك، ولندن، وأمستردام، والبندقية، والإسكندرية، وشنغهاي، وبانكوك، وداكا، ستختفي تماماً تحت الماء. لن يقتصر الأمر على المدن، بل سيشمل دولاً بأكملها، خاصة الدول الجزرية المنخفضة مثل المالديف وتوفالو وكيريباتي، والتي ستكون أولى ضحايا هذا الطوفان. ستتحول مناطق ودلتا الأنهار الخصبة، مثل دلتا النيل في مصر ودلتا الميكونغ في فيتنام، إلى أذرع بحرية مالحة، مما يقضي على سلال الغذاء لمئات الملايين من البشر. الخرائط العالمية ستُعاد رسمها بالكامل؛ ستصبح فلوريدا أرخبيلاً من الجزر الصغيرة، وسيغمر البحر سنترال فالي في كاليفورنيا، وستتحول أجزاء كبيرة من سواحل أوروبا وآسيا إلى بحار داخلية. إن حجم الدمار الذي سيحدثه ذوبان القمم الجليدية من خلال ارتفاع منسوب مياه البحر وحده كفيل بإعادة الحضارة الإنسانية إلى نقطة الصفر. إن مصير المناطق الساحلية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصير القمم الجليدية.
سيترتب على هذا الفيضان العالمي آثار تتجاوز مجرد فقدان الأراضي. ستتعرض البنية التحتية العالمية لضربة قاصمة، حيث ستُدمر الموانئ، والمطارات، ومحطات الطاقة، وشبكات الاتصالات الموجودة في المناطق الساحلية. سيتسبب تسرب المياه المالحة إلى طبقات المياه الجوفية الساحلية (Aquifers) في تلوث مصادر المياه العذبة لملايين البشر، مما يخلق أزمة مياه عالمية غير مسبوقة. كما ستُفقد مواقع أثرية وتاريخية لا تُقدر بثمن، مما يمحو أجزاءً هامة من التراث الإنساني. إن الحفاظ على استقرار القمم الجليدية هو في جوهره حفاظ على خريطة عالمنا الحالية.
اضطرابات مناخية جذرية: إعادة رسم خريطة الطقس العالمية
إن دور القمم الجليدية لا يقتصر على كونها خزانات للمياه، بل هي أيضاً منظمات حرارية حيوية. سيؤدي اختفاؤها إلى سلسلة من الاضطرابات المناخية العنيفة التي ستغير أنماط الطقس العالمية بشكل جذري.
أولاً، سيتفاقم تأثير الألبيدو (Albedo Effect). تتميز القمم الجليدية بسطحها الأبيض الناصع الذي يعكس ما يصل إلى 80-90% من أشعة الشمس الواردة إلى الفضاء، مما يساهم في تبريد الكوكب. عند ذوبان هذه القمم الجليدية، سيتم استبدال سطحها العاكس بمياه المحيطات الداكنة أو اليابسة، والتي تمتص نسبة أكبر بكثير من حرارة الشمس (حوالي 90%). هذا سيؤدي إلى حلقة مفرغة من الاحترار (Positive Feedback Loop)؛ كلما ذاب المزيد من الجليد، امتص الكوكب المزيد من الحرارة، مما يسرّع ذوبان ما تبقى من القمم الجليدية، وهكذا دواليك، مما يدفع بمناخ الأرض نحو حالة “الدفيئة” (Hothouse Earth) بشكل لا رجعة فيه.
ثانياً، سيؤدي تدفق كميات هائلة من المياه العذبة الباردة من القمم الجليدية الذائبة إلى المحيطات، خاصة في شمال الأطلسي، إلى اضطراب كارثي في التيارات المحيطية. يُعد التيار الأطلسي الانقلابي الطولي (AMOC – Atlantic Meridional Overturning Circulation)، والذي يشكل تيار الخليج جزءاً منه، نظاماً حيوياً لنقل الحرارة من المناطق المدارية إلى خطوط العرض العليا. يعتمد هذا التيار على كثافة المياه؛ حيث تبرد المياه السطحية المالحة في الشمال فتصبح أكثر كثافة وتهبط إلى الأعماق، دافعةً التيار. إن تدفق المياه العذبة سيقلل من ملوحة وكثافة المياه السطحية، مما قد يبطئ هذا التيار أو يوقفه تماماً. ستكون العواقب وخيمة: ستشهد أوروبا الغربية وشمال أمريكا انخفاضاً حاداً في درجات الحرارة، مما قد يدخلها في عصر جليدي مصغر مفاجئ، بينما ستشهد المناطق المدارية ارتفاعاً أكبر في درجات الحرارة وتغيراً في أنماط هطول الأمطار، مما يؤثر على الرياح الموسمية التي يعتمد عليها المليارات في الزراعة. إن استقرار القمم الجليدية هو ضمانة لاستقرار هذه التيارات الحيوية.
ثالثاً، سيؤدي الاحترار غير المتكافئ بين القطبين وخط الاستواء إلى إضعاف وتذبذب التيار النفاث (Jet Stream)، وهو تيار هوائي سريع في الغلاف الجوي العلوي يتحكم في حركة أنظمة الطقس. سيصبح التيار النفاث أكثر تموجاً وبطءاً، مما يؤدي إلى “احتباس” أنظمة الطقس في مكانها لفترات أطول. هذا يعني موجات حر وجفاف أكثر شدة واستمرارية في بعض المناطق، وفيضانات وعواصف أكثر تطرفاً في مناطق أخرى. سيصبح الطقس أقل قابلية للتنبؤ وأكثر عنفاً في جميع أنحاء العالم. إن مصير الطقس العالمي يعتمد بشكل كبير على حالة القمم الجليدية.
التأثيرات الجيولوجية: عندما تتنفس الأرض من جديد
إن وزن القمم الجليدية الهائل يضغط على القشرة الأرضية (Earth’s Crust) بشكل كبير. يبلغ سمك الصفيحة الجليدية في أنتاركتيكا في بعض المناطق أكثر من 4 كيلومترات. عند ذوبان هذه الكتلة الجليدية الهائلة، سترتفع اليابسة التي كانت تحتها ببطء في عملية تُعرف بالارتداد التوازني (Isostatic Rebound). هذه الظاهرة تحدث بالفعل في مناطق مثل الدول الاسكندنافية التي كانت مغطاة بالجليد خلال العصر الجليدي الأخير.
سيؤدي ذوبان القمم الجليدية في غرينلاند وأنتاركتيكا إلى ارتفاع هذه اليابسة بمئات الأمتار على مدى آلاف السنين. هذا الارتفاع لن يكون متساوياً وسيؤدي إلى تغيرات طوبوغرافية جذرية، وقد يكشف عن تضاريس جديدة لم ترَ النور منذ ملايين السنين. الأهم من ذلك، أن هذا التغير في الضغط على القشرة الأرضية قد يؤدي إلى زيادة النشاط الزلزالي والبركاني. هناك أدلة تشير إلى أن إزالة العبء الجليدي يمكن أن تزيل الضغط عن الصهارة (Magma) الكامنة تحت البراكين، مما يسهل ثورانها، كما هو الحال في أيسلندا. في أنتاركتيكا، توجد براكين نشطة تحت الجليد، وإزالة الضغط عنها قد يؤدي إلى ثورانات هائلة. كما أن التغير في توزيع الوزن على الكوكب قد يؤثر على دوران الأرض بشكل طفيف، وإن كان هذا التأثير أقل دراماتيكية من غيره. إن ثبات القمم الجليدية يساهم في الحفاظ على الاستقرار الجيولوجي النسبي للكوكب.
انهيار النظم البيئية: من القطبين إلى خط الاستواء
سيكون ذوبان القمم الجليدية بمثابة ضربة قاضية للتنوع البيولوجي على الكوكب. ستكون النظم البيئية القطبية هي أولى الضحايا. سيفقد الدب القطبي موطنه الأساسي المتمثل في الجليد البحري الذي يصطاد عليه. ستواجه أنواع مثل الفقمة والفظ وحيتان الكركدن (Narwhal) خطر الانقراض. في الجنوب، ستنهار مستعمرات طيور البطريق الإمبراطوري التي تعتمد على الجليد البحري المستقر للتكاثر. إن بقاء هذه الأنواع الشهيرة يعتمد كلياً على وجود القمم الجليدية والبيئة المتجمدة المحيطة بها.
في المحيطات، ستكون الآثار كارثية. سيؤدي تدفق المياه العذبة من القمم الجليدية الذائبة إلى تغيير ملوحة المياه السطحية، مما يؤثر على الكائنات التي تكيفت مع ظروف معينة، خاصة العوالق النباتية (Phytoplankton)، التي تشكل قاعدة السلسلة الغذائية البحرية وتنتج أكثر من نصف أكسجين الكوكب. كما أن المحيطات تمتص كميات متزايدة من ثاني أكسيد الكربون (وهو السبب الرئيسي لذوبان القمم الجليدية)، مما يؤدي إلى تحمض المحيطات (Ocean Acidification). هذا التحمض يجعل من الصعب على الكائنات البحرية مثل الشعاب المرجانية والمحار والقشريات بناء هياكلها وأصدافها، مما يهدد بانهيار هذه النظم البيئية الحيوية.
لن تقتصر التأثيرات على المناطق القطبية والمحيطات. ستؤدي التغيرات المناخية الجذرية الناجمة عن ذوبان القمم الجليدية إلى تغيير مناطق المناخ في جميع أنحاء العالم. ستتحرك الصحاري، وستتغير أنماط الغابات، وستضطر الأنواع النباتية والحيوانية إلى الهجرة إلى خطوط عرض أعلى أو ارتفاعات أكبر للبقاء على قيد الحياة. الكثير من الأنواع لن تتمكن من التكيف أو الهجرة بالسرعة الكافية، مما سيؤدي إلى موجة انقراض جماعي سادسة، ستكون هذه المرة من صنع الإنسان بشكل غير مباشر من خلال تدمير القمم الجليدية. إن الحفاظ على القمم الجليدية هو حفاظ على شبكة الحياة المعقدة التي تدعم وجودنا.
التداعيات البشرية والجيوسياسية: عالم على حافة الهاوية
في ظل هذه التغيرات البيئية الكارثية، ستواجه الحضارة الإنسانية تحديات وجودية. سيؤدي غمر المناطق الساحلية إلى نزوح جماعي غير مسبوق في تاريخ البشرية. سيتعين على مئات الملايين، وربما المليارات، من البشر التخلي عن منازلهم ومدنهم، ليصبحوا “لاجئي مناخ”. هذا النزوح الهائل سيفرض ضغطاً هائلاً على الموارد في المناطق الداخلية، وسيؤدي إلى توترات اجتماعية وسياسية وصراعات على الغذاء والماء والمأوى. إن استقرار المجتمعات البشرية الحديثة يعتمد على استقرار السواحل، والذي يعتمد بدوره على استقرار القمم الجليدية.
اقتصادياً، سيكون الانهيار شاملاً. سيؤدي فقدان المدن الساحلية والبنية التحتية إلى خسائر تقدر بمئات التريليونات من الدولارات. ستنهار أسواق العقارات العالمية، وستفلس صناعة التأمين. ستتوقف التجارة العالمية مع تدمير الموانئ الرئيسية. كما أن الاضطرابات في أنماط الطقس ستدمر الزراعة في العديد من المناطق، مما يؤدي إلى مجاعات عالمية وصراعات على الموارد الغذائية. إن الهيكل الاقتصادي العالمي الحالي غير مصمم للتعامل مع التداعيات الكاملة لذوبان القمم الجليدية.
من الناحية الجيوسياسية، سيخلق هذا العالم الجديد مصادر جديدة للنزاع. في القطب الشمالي، سيؤدي ذوبان الجليد البحري (المرتبط بحالة القمم الجليدية الأوسع) إلى فتح ممرات ملاحية جديدة وموارد طبيعية كانت مغطاة بالجليد، مما يثير التنافس بين الدول المطلة على القطب الشمالي. في المقابل، ستؤدي أزمات المياه والغذاء والنزوح إلى زعزعة استقرار الدول وتصاعد النزاعات الدولية. قد تنهار التحالفات القائمة وتنشأ صراعات جديدة في عالم يكافح من أجل البقاء. إن مستقبل العلاقات الدولية سيتشكل حتماً بفعل مصير القمم الجليدية.
في الختام، إن سيناريو ذوبان جميع القمم الجليدية في القطبين وغرينلاند ليس مجرد فرضية مثيرة، بل هو تحذير صارخ من العواقب النهائية للاحترار العالمي غير المكبوح. إنه يصور عالماً مختلفاً تماماً عن عالمنا، عالماً أعيد تشكيله بفعل المياه، حيث تغرق المدن، ويتغير المناخ بشكل جذري، وتنهار النظم البيئية، وتواجه البشرية أزمة بقاء. كل جانب من جوانب الحياة على الأرض، من الجغرافيا والطقس إلى الاقتصاد والسياسة، سيتأثر بشكل عميق. على الرغم من أن الذوبان الكامل قد يستغرق قروناً أو آلاف السنين، إلا أن القرارات التي نتخذها اليوم بشأن الانبعاثات وحماية مناخنا هي التي ستحدد مدى سرعة تحركنا نحو هذا المستقبل المدمر. إن حماية القمم الجليدية المتبقية ليست خياراً، بل هي ضرورة حتمية للحفاظ على الكوكب الذي نعتبره وطننا. إن مصير القمم الجليدية هو في نهاية المطاف مصيرنا.
الأسئلة الشائعة
1. ما هو مقدار الارتفاع الدقيق في مستوى سطح البحر الذي يمكن توقعه إذا ذابت جميع القمم الجليدية؟
التقدير العلمي الأكثر قبولاً يشير إلى ارتفاع إجمالي في مستوى سطح البحر يتراوح بين 66 و 70 متراً. هذا الرقم مستمد من الحجم الهائل للمياه العذبة المحتجزة في الصفائح الجليدية القارية. التفصيل الدقيق لهذا الارتفاع يأتي من ثلاثة مصادر رئيسية:
- صفيحة غرينلاند الجليدية: تحتوي على ما يقدر بـ 2.9 مليون كيلومتر مكعب من الجليد، وذوبانها الكامل سيساهم بحوالي 7.4 أمتار في ارتفاع مستوى سطح البحر.
- صفيحة أنتاركتيكا الجليدية: هي الأكبر على الإطلاق، وتحتوي على حوالي 26.5 مليون كيلومتر مكعب من الجليد. ينقسم تأثيرها إلى جزأين: الصفيحة الجليدية لشرق أنتاركتيكا (EAIS)، وهي الأكبر والأكثر استقراراً نسبياً، وذوبانها سيساهم بحوالي 52 متراً. أما الصفيحة الجليدية لغرب أنتاركتيكا (WAIS)، فهي أقل استقراراً وتستقر على قاعدة صخرية تحت مستوى سطح البحر، وذوبانها سيضيف حوالي 5-6 أمتار.
- الأنهار الجليدية والقمم الجليدية الأخرى: تشمل الأنهار الجليدية في جبال الهيمالايا، والأنديز، والألب، وغيرها. على الرغم من صغر حجمها مقارنة بالصفائح القطبية، إلا أن ذوبانها الكامل سيضيف حوالي 40 سنتيمتراً إلى مستوى سطح البحر.
يجب التأكيد أن هذا الارتفاع لن يكون موزعاً بالتساوي حول العالم بسبب عوامل مثل الجاذبية المحلية ودوران الأرض والارتداد التوازني للقشرة الأرضية.
2. كم من الوقت سيستغرق ذوبان جميع القمم الجليدية بالكامل؟
إن الذوبان الكامل لجميع القمم الجليدية هو عملية جيولوجية بطيئة للغاية ولن تحدث خلال حياتنا أو حتى خلال القرون القليلة القادمة. تتحدث النماذج المناخية عن أطر زمنية تتراوح بين عدة قرون وعدة آلاف من السنين، وتعتمد بشكل حاسم على سيناريوهات الانبعاثات المستقبلية. ومع ذلك، فإن المفهوم الحاسم هنا هو “نقطة اللاعودة” أو “نقطة التحول” (Tipping Point). قد نصل خلال هذا القرن إلى مستويات من الاحترار تُلزم الكوكب بمسار لا رجعة فيه لذوبان أجزاء كبيرة من هذه الصفائح، حتى لو توقفت الانبعاثات لاحقاً. على سبيل المثال، يُعتقد أن الصفيحة الجليدية لغرب أنتاركتيكا قد تكون تجاوزت بالفعل نقطة تحول نحو الانهيار الذي قد يستغرق قروناً ليكتمل، لكنه أصبح حتمياً. لذا، في حين أن الذوبان الكامل يستغرق آلاف السنين، فإن القرارات التي نتخذها في العقود القادمة قد تحدد مصير القمم الجليدية لتلك الفترة الطويلة.
3. هل يمكن إيقاف أو عكس عملية ذوبان القمم الجليدية بعد أن تبدأ بشكل متسارع؟
إيقاف العملية ممكن نظرياً، ولكنه يتطلب إجراءات عالمية جذرية وسريعة. الشرط الأساسي هو تحقيق صافي انبعاثات صفري لغازات الدفيئة في أسرع وقت ممكن، ومن ثم الانتقال إلى “الانبعاثات السلبية” (Negative Emissions)، أي إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي بشكل فعال. أما عكس العملية، أي إعادة بناء القمم الجليدية إلى حجمها السابق، فهو أصعب بما لا يقاس. يتطلب نمو الصفائح الجليدية فترات طويلة من الظروف الباردة المستقرة (مثل العصور الجليدية) التي تستمر لآلاف السنين. بمجرد أن تذوب، فإن إعادة تجميد هذا الحجم الهائل من المياه يتطلب تبريداً عالمياً لا يمكن تحقيقه بسهولة. هناك بعض المقترحات الهندسية الجيولوجية (Geoengineering) الطموحة، مثل رش جزيئات الكبريت في الستراتوسفير لتعكس أشعة الشمس أو بناء هياكل تحت الماء لمنع المياه الدافئة من الوصول إلى قاعدة القمم الجليدية، لكن هذه الحلول لا تزال في طور النظرية وتحمل مخاطر بيئية هائلة وغير مفهومة بالكامل.
4. ما هو الفرق الجوهري بين ذوبان الجليد في القطب الشمالي وذوبان القمم الجليدية في أنتاركتيكا وغرينلاند؟
الفرق الجوهري يكمن في طبيعة الجليد وموقعه.
- الجليد في القطب الشمالي: هو في معظمه “جليد بحري” (Sea Ice)، أي مياه محيط متجمدة تطفو على سطح المحيط المتجمد الشمالي. وفقاً لمبدأ أرخميدس، فإن الجليد الطافي يزيح بالفعل كمية من الماء تعادل وزنه، لذا فإن ذوبانه لا يساهم بشكل مباشر وكبير في ارتفاع مستوى سطح البحر (مثلما لا يفيض كوب الماء عند ذوبان مكعب الثلج فيه). تأثيره الرئيسي هو تقليل بياض الكوكب (الألبيدو)، مما يزيد من امتصاص حرارة الشمس ويسرّع الاحترار العالمي.
- الجليد في غرينلاند وأنتاركتيكا: هو “جليد قاري” أو “صفيحة جليدية” (Land Ice)، وهو عبارة عن ثلج متراكم ومضغوط على اليابسة على مدى آلاف السنين. عندما يذوب هذا الجليد أو ينزلق إلى المحيط على شكل جبال جليدية، فإنه يضيف كمية جديدة من المياه إلى المحيطات لم تكن موجودة من قبل، مما يؤدي مباشرة إلى ارتفاع مستوى سطح البحر. هذا هو السبب في أن مصير القمم الجليدية في هاتين المنطقتين هو الشاغل الأكبر فيما يتعلق بارتفاع منسوب البحار.
5. كيف سيؤثر تدفق المياه العذبة الهائل على الحياة البحرية تحديداً؟
التأثير سيكون متعدد الأوجه ومدمراً. أولاً، سيؤدي تدفق المياه العذبة إلى تكوين طبقة أقل ملوحة وكثافة على سطح المحيط. هذا التطبق (Stratification) يمنع عملية الخلط العمودي للمياه، مما يحبس العناصر الغذائية في الأعماق ويمنع وصولها إلى السطح حيث تعيش العوالق النباتية (Phytoplankton). بما أن هذه العوالق هي قاعدة الشبكة الغذائية البحرية بأكملها، فإن انهيارها سيؤدي إلى مجاعة متسلسلة تؤثر على كل شيء من الأسماك الصغيرة إلى الحيتان الكبيرة. ثانياً، سيغير هذا التدفق بشكل جذري الظروف التي تكيفت معها الأنواع البحرية على مدى آلاف السنين، مما يسبب ضغطاً هائلاً على قدرتها على البقاء. ثالثاً، بالتزامن مع ذوبان القمم الجليدية، يمتص المحيط المزيد من ثاني أكسيد الكربون، مما يسبب “تحمض المحيطات” (Ocean Acidification)، والذي يذيب هياكل وأصداف الكائنات البحرية مثل المرجان والمحار، ويدمر النظم البيئية الحيوية كالشعاب المرجانية.
6. هل سيؤدي ذوبان القمم الجليدية إلى كشف أراضٍ جديدة صالحة للسكن أو الزراعة؟
نعم، ستظهر أراضٍ جديدة في غرينلاند وأنتاركتيكا كانت مغطاة بالجليد لملايين السنين. هذه العملية تُعرف بالارتداد التوازني (Isostatic Rebound)، حيث ترتفع القشرة الأرضية بعد إزالة الوزن الهائل للجليد. ومع ذلك، فإن هذه الأراضي الجديدة لن تكون جنة عدن. التربة ستكون فقيرة للغاية، مجرد صخور جرداء ورواسب جليدية، وستحتاج إلى آلاف السنين لتتطور وتصبح صالحة للزراعة المستدامة. المناخ في هذه المناطق، على الرغم من كونه أكثر دفئاً، سيظل قاسياً مع شتاء طويل ومظلم. الأهم من ذلك، أن أي مساحة أرض جديدة تظهر في القطبين ستكون ضئيلة للغاية مقارنة بالمساحات الشاسعة من الأراضي الخصبة والمكتظة بالسكان التي ستُفقد بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر في جميع أنحاء العالم. الفائدة المحتملة ستكون محصورة في استغلال الموارد المعدنية التي قد تنكشف، ولكنها لن تعوض الكارثة العالمية.
7. كيف يمكن أن يؤدي ذوبان الجليد في القطبين إلى تبريد مناطق مثل أوروبا؟
هذه الظاهرة، التي تبدو متناقضة، هي نتيجة متوقعة لانهيار التيارات المحيطية. يعمل التيار الأطلسي الانقلابي الطولي (AMOC)، والذي يعد تيار الخليج جزءاً منه، كناقل حراري عملاق، حيث ينقل المياه الدافئة من المناطق المدارية شمالاً، مما يمنح أوروبا الغربية مناخاً أكثر دفئاً بكثير مما هو متوقع لخط العرض الذي تقع فيه. يعتمد هذا التيار على هبوط المياه المالحة الباردة والكثيفة في شمال الأطلسي. إن تدفق كميات هائلة من المياه العذبة الباردة من القمم الجليدية الذائبة في غرينلاند سيقلل من ملوحة وكثافة المياه السطحية، مما يمنعها من الهبوط ويعطل “المحرك” الذي يدفع التيار بأكمله. إذا تباطأ هذا التيار بشكل كبير أو توقف، ستتوقف إمدادات الحرارة إلى أوروبا، مما قد يؤدي إلى انخفاض حاد في متوسط درجات الحرارة هناك، خاصة في فصل الشتاء، وإدخال المنطقة في ظروف مناخية أقرب إلى تلك الموجودة في كندا على نفس خط العرض.
8. هل سيؤثر ذوبان القمم الجليدية على توافر المياه العذبة للشرب والزراعة؟
بشكل متناقض، نعم، سيؤدي إطلاق أكبر خزان للمياه العذبة في العالم إلى تفاقم أزمة المياه العذبة. السبب الأول هو أن ارتفاع مستوى سطح البحر سيؤدي إلى تسرب المياه المالحة إلى طبقات المياه الجوفية الساحلية (Aquifers) ودلتا الأنهار في جميع أنحاء العالم، مما يلوث مصادر مياه الشرب والري لمئات الملايين من البشر. السبب الثاني هو أن التغيرات المناخية الجذرية التي ستتبع ذوبان القمم الجليدية ستغير أنماط هطول الأمطار بشكل كبير. المناطق التي تعتمد على هطول الأمطار الموسمي المنتظم قد تواجه موجات جفاف طويلة ومدمرة، بينما تتعرض مناطق أخرى لفيضانات كارثية. كما أن الأنهار الجليدية في السلاسل الجبلية مثل الهيمالايا، والتي تعمل “كأبراج مياه” طبيعية تغذي أنهاراً رئيسية يعتمد عليها المليارات في آسيا، ستختفي، مما سيؤدي إلى تدفقات موسمية غير منتظمة وكارثية.
9. ما هي الآثار الجيولوجية الأقل شهرة لذوبان القمم الجليدية؟
إلى جانب الارتداد التوازني، هناك تأثيرات جيولوجية أخرى هامة. إزالة الضغط الهائل الذي تمارسه القمم الجليدية على القشرة الأرضية يمكن أن يزعزع استقرار الصدوع والفوالق الموجودة تحتها، مما قد يؤدي إلى زيادة وتيرة وشدة الزلازل في مناطق مثل غرينلاند وأنتاركتيكا. علاوة على ذلك، يمكن أن يحفز هذا التغير في الضغط النشاط البركاني. في أيسلندا وأنتاركتيكا، توجد براكين نشطة مغطاة بالجليد. إزالة الغطاء الجليدي يقلل الضغط على غرف الصهارة (Magma Chambers) تحتها، مما يسهل صعود الصهارة إلى السطح وحدوث ثورانات بركانية. على نطاق كوكبي، فإن إعادة توزيع هذا الكم الهائل من الكتلة من القطبين باتجاه خط الاستواء (على شكل مياه) سيؤثر بشكل طفيف على دوران الأرض، وقد يغير من محور دورانها ويطيل مدة اليوم بجزء من الثانية.
10. هل هناك أي جوانب إيجابية أو “فرص” قد تنشأ عن ذوبان القمم الجليدية؟
من منظور أكاديمي بحت، من المهم تحليل جميع النتائج المحتملة. قد تنشأ بعض “الفرص” المحدودة والمحلية، لكنها تتضاءل تماماً أمام حجم الكارثة العالمية. على سبيل المثال، سيؤدي ذوبان الجليد البحري في القطب الشمالي إلى فتح طرق ملاحية جديدة مثل الممر الشمالي الغربي والممر البحري الشمالي، مما يختصر طرق الشحن بين آسيا وأوروبا. كما سيصبح الوصول إلى الموارد الطبيعية الهائلة (النفط والغاز والمعادن) الموجودة تحت قاع المحيط المتجمد الشمالي أسهل. ومع ذلك، فإن هذه “الفوائد” الاقتصادية تأتي بتكلفة بيئية هائلة، بما في ذلك زيادة مخاطر الانسكابات النفطية في بيئة قطبية هشة، كما أنها ستؤدي إلى توترات جيوسياسية وتنافس عسكري بين الدول المطلة على القطب الشمالي. في نهاية المطاف، فإن أي مكاسب اقتصادية أو استراتيجية قصيرة المدى ستكون بلا معنى في عالم يواجه نزوحاً جماعياً، ومجاعات، وانهياراً اقتصادياً شاملاً بسبب الآثار الأخرى لذوبان القمم الجليدية.