علماء

ماري كوري: من هي المرأة التي حازت على جائزتي نوبل في علمين مختلفين؟

العالمة البولندية الفرنسية التي غيرت وجه العلم الحديث وفتحت آفاقاً جديدة في فهم النشاط الإشعاعي

تُعد ماري كوري واحدة من أبرز الشخصيات العلمية في التاريخ الإنساني، فقد استطاعت بعزيمتها وذكائها الاستثنائي أن تحطم الحواجز وتضع بصمة لا تُمحى في عالم الفيزياء والكيمياء. مسيرتها العلمية المليئة بالإنجازات الباهرة جعلت منها مصدر إلهام للأجيال، خاصة للنساء الراغبات في خوض غمار البحث العلمي في زمن كان يحصر هذا المجال بالرجال فقط.

المقدمة

ولدت ماري كوري في وارسو ببولندا عام 1867، وحملت اسمها الأصلي ماريا سكوودوفسكا قبل أن تنتقل إلى فرنسا وتصبح واحدة من أعظم العقول العلمية. حياتها كانت مليئة بالتحديات والصعوبات التي لم تمنعها من تحقيق أحلامها العلمية، بل على العكس زادتها إصراراً وعزيمة. تميزت بشغفها الكبير بالعلوم منذ صغرها، وهو الشغف الذي قادها لتصبح أول امرأة تفوز بجائزة نوبل، والشخص الوحيد الذي حصل على هذه الجائزة المرموقة في مجالين علميين مختلفين.

ساهمت ماري كوري في تأسيس علم النشاط الإشعاعي (Radioactivity)، واكتشفت عنصرين كيميائيين جديدين هما البولونيوم والراديوم، مما فتح آفاقاً واسعة أمام التطبيقات الطبية والعلمية. إرثها العلمي لا يقتصر فقط على اكتشافاتها المذهلة، بل يمتد ليشمل دورها الريادي في كسر القيود الاجتماعية المفروضة على النساء في المجتمع الأكاديمي الأوروبي خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

النشأة والطفولة في بولندا

نشأت ماري كوري في عائلة بولندية محبة للعلم والمعرفة، حيث كان والدها فلاديسلاف سكوودوفسكي معلماً للفيزياء والرياضيات، بينما عملت والدتها مديرة لمدرسة داخلية. هذه البيئة الأكاديمية المحيطة بها منذ الصغر كان لها أثر كبير في تشكيل شخصيتها العلمية وتوجهاتها المستقبلية. كانت الأصغر بين خمسة أطفال، وأظهرت منذ سنواتها الأولى قدرات عقلية استثنائية وذاكرة قوية جعلتها تتفوق على أقرانها.

عانت ماري كوري في طفولتها من ظروف قاسية، حيث كانت بولندا تحت الاحتلال الروسي الذي فرض قيوداً صارمة على التعليم والثقافة البولندية. فقدت والدتها عندما كانت في العاشرة من عمرها بسبب مرض السل، كما توفيت إحدى شقيقاتها بالتيفوس، مما ترك أثراً عميقاً في نفسها. رغم هذه المآسي، واصلت دراستها بجد واجتهاد، وتخرجت من المدرسة الثانوية بامتياز وهي في سن الخامسة عشرة، لكنها واجهت عائقاً كبيراً تمثل في حرمان النساء من الالتحاق بالجامعات في بولندا آنذاك.

التعليم والتحديات الأكاديمية

واجهت ماري كوري تحديات جمة في سعيها للحصول على تعليم جامعي، فالجامعات البولندية كانت مغلقة أمام النساء في ذلك الوقت. لم تستسلم للواقع المرير، بل انضمت إلى ما يُعرف بـ “الجامعة الطائرة” (Flying University)، وهي مؤسسة تعليمية سرية كانت تعقد محاضراتها في أماكن مختلفة لتفادي السلطات الروسية وتوفير فرص التعليم للبولنديين، وخاصة النساء. هذه التجربة عززت من رغبتها في مواصلة التعليم الأكاديمي الرسمي.

عملت ماري كوري كمعلمة خصوصية ومربية أطفال لسنوات عديدة لتوفير المال اللازم لتحقيق حلمها، كما ساعدت شقيقتها الكبرى برونيسلافا مالياً للسفر إلى باريس ودراسة الطب، على أن تبادلها الأخيرة المساعدة لاحقاً. في عام 1891، وعندما بلغت ماري الرابعة والعشرين من عمرها، سافرت أخيراً إلى باريس لتلتحق بجامعة السوربون (Sorbonne University)، إحدى أعرق الجامعات الأوروبية. كانت الحياة في باريس صعبة للغاية، حيث عاشت في غرفة علوية باردة وصغيرة، واعتمدت على نظام غذائي بسيط للغاية بسبب قلة المال، لكن شغفها بالعلم كان يفوق كل الصعوبات.

الدراسة في جامعة السوربون

التحقت ماري كوري بكلية العلوم في جامعة السوربون لدراسة الفيزياء والرياضيات، وكانت من بين عدد قليل جداً من النساء في هذا المجال. واجهت تحديات لغوية في البداية حيث كانت تتقن البولندية والروسية، ولم تكن تجيد الفرنسية بطلاقة، لكنها تغلبت على هذه العقبة بسرعة بفضل ذكائها وإصرارها. انغمست في دراستها بشكل كامل، وكانت تقضي معظم وقتها في المكتبات والمختبرات، مما أكسبها سمعة ممتازة بين أساتذتها وزملائها.

حصلت ماري كوري على درجة الليسانس في الفيزياء عام 1893 بتفوق ملحوظ، حيث كانت الأولى على دفعتها. شجعها هذا النجاح على مواصلة الدراسة، فحصلت على درجة ثانية في الرياضيات عام 1894، وكانت الثانية على دفعتها. خلال هذه الفترة، تلقت منحة دراسية ساعدتها على تحسين ظروفها المعيشية قليلاً. كانت تبحث عن مكان لإجراء أبحاث عن الخصائص المغناطيسية لأنواع مختلفة من الفولاذ، وهنا بدأت مرحلة جديدة من حياتها عندما التقت بعالم الفيزياء الفرنسي بيير كوري.

لقاء بيير كوري وبداية الشراكة العلمية

كان لقاء ماري كوري ببيير كوري (Pierre Curie) عام 1894 نقطة تحول مفصلية في حياتها الشخصية والمهنية. كان بيير عالم فيزياء موهوباً ومحاضراً في مدرسة الفيزياء والكيمياء الصناعية في باريس، وقد طور مع شقيقه أجهزة علمية متقدمة. شعر الاثنان بانجذاب فكري وعاطفي قوي نحو بعضهما، حيث وجدا في بعضهما شريكاً مثالياً يتقاسم نفس الشغف بالعلم والبحث. تزوجا في حفل بسيط عام 1895، وبدأت واحدة من أعظم الشراكات العلمية في التاريخ.

عملت ماري كوري وبيير معاً في ظروف صعبة للغاية، حيث كان مختبرهما عبارة عن حظيرة قديمة رطبة وسيئة التهوية، لكن هذا لم يثنِهما عن مواصلة أبحاثهما. قررت ماري أن تركز على ظاهرة النشاط الإشعاعي التي اكتشفها هنري بيكريل (Henri Becquerel) في عنصر اليورانيوم قبل عامين فقط. كانت مهتمة بمعرفة ما إذا كانت هناك مواد أخرى تظهر خصائص مشابهة، وبدأت بقياس الإشعاع الصادر من عينات مختلفة باستخدام أجهزة دقيقة طورها بيير.

اكتشاف النشاط الإشعاعي والعناصر الجديدة

بدأت ماري كوري أبحاثها حول النشاط الإشعاعي عام 1897، وكانت أول من استخدم مصطلح “النشاط الإشعاعي” لوصف هذه الظاهرة. اكتشفت أن شدة الإشعاع لا تعتمد على الشكل الكيميائي للعينة بل على كمية اليورانيوم الموجودة فيها، مما يعني أن النشاط الإشعاعي خاصية ذرية وليست جزيئية. هذا الاكتشاف كان ثورياً في فهم طبيعة الذرة والمادة. لاحظت أيضاً أن بعض المعادن تُظهر نشاطاً إشعاعياً أقوى مما يمكن تفسيره بمحتواها من اليورانيوم، مما قادها للاعتقاد بوجود عناصر مشعة أخرى غير مكتشفة.

انضم بيير كوري إلى زوجته في هذا البحث الواعد، وبدأا معاً عملية شاقة لعزل هذه العناصر الجديدة من خام البيتشبلند (Pitchblende). كانت العملية تتطلب معالجة كميات ضخمة من الخام للحصول على كميات ضئيلة من المواد المشعة. في يوليو 1898، أعلنت ماري كوري وبيير اكتشاف عنصر جديد أطلقت عليه اسم “البولونيوم” (Polonium) تكريماً لوطنها بولندا. بعد بضعة أشهر، في ديسمبر من نفس العام، أعلنا اكتشاف عنصر ثانٍ أكثر نشاطاً إشعاعياً أسمياه “الراديوم” (Radium). كانت هذه الاكتشافات إنجازات علمية هائلة فتحت مجالات جديدة تماماً للبحث العلمي.

الجهود الشاقة لعزل الراديوم

واجهت ماري كوري وبيير تحدياً هائلاً في عزل الراديوم بشكل نقي لإثبات وجوده كعنصر مستقل. استمرت هذه العملية المضنية لأربع سنوات تقريباً، حيث عالجت ماري أطناناً من خام البيتشبلند يدوياً في ظروف بدائية للغاية. كانت تقوم بغلي الخام في أوعية ضخمة، وتنقيته وتكريره مراراً وتكراراً، في عمل شاق يتطلب جهداً بدنياً وصبراً خارقين. كانت تعمل لساعات طويلة يومياً، وأحياناً تضطر لتحريك المواد بعصا أثقل من وزنها تقريباً.

في عام 1902، نجحت ماري كوري أخيراً في عزل عُشر غرام من الراديوم النقي من طن كامل من الخام، وهو إنجاز علمي وتقني مذهل. تمكنت من تحديد الوزن الذري للراديوم بدقة، مما أكد بشكل قاطع وجوده كعنصر كيميائي جديد. هذا الإنجاز شكل أساس أطروحتها للدكتوراه التي دافعت عنها عام 1903، لتصبح أول امرأة في فرنسا تحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء. كان عملها رائداً ومؤسساً لعلم جديد بالكامل، وأصبحت ماري كوري رمزاً للتميز العلمي والمثابرة.

جائزة نوبل الأولى في الفيزياء

في عام 1903، حصلت ماري كوري على جائزة نوبل في الفيزياء مشاركةً مع زوجها بيير كوري والعالم هنري بيكريل، تقديراً لأبحاثهم الرائدة حول ظاهرة النشاط الإشعاعي. كانت ماري كوري أول امرأة تفوز بهذه الجائزة المرموقة، مما شكل سابقة تاريخية وإنجازاً غير مسبوق للنساء في المجال العلمي. في البداية، كانت لجنة نوبل تنوي منح الجائزة لبيير وبيكريل فقط، لكن بيير أصر على ضرورة تضمين زوجته نظراً لدورها المحوري في الاكتشافات، وهو ما تم بالفعل.

لم تتمكن ماري كوري وبيير من حضور حفل توزيع الجوائز في ستوكهولم بسبب التزاماتهما التدريسية ووضعهما الصحي، حيث كانت ماري مرهقة من سنوات العمل الشاق. سافرا إلى السويد في العام التالي لإلقاء المحاضرة المطلوبة. منحت الجائزة ماري كوري اعترافاً دولياً بمكانتها العلمية، لكنها لم تغير من تواضعها وتفانيها في البحث العلمي. واصلت العمل في مختبرها رغم شهرتها المتزايدة، مركزة على استكشاف خصائص الراديوم وتطبيقاته المحتملة، خاصة في المجال الطبي.

فقدان بيير كوري والاستمرار رغم المحنة

في 19 أبريل 1906، وقعت مأساة غيرت حياة ماري كوري جذرياً، حيث توفي زوجها بيير في حادث مروري في شوارع باريس عندما دهسته عربة تجرها الخيول. كان الحادث صدمة مروعة لماري، التي فقدت شريك حياتها ورفيق دربها العلمي. تركها بيير وحيدة مع ابنتيها إيرين وإيف، في ظروف نفسية قاسية للغاية. كتبت في مذكراتها عن الألم العميق والشعور بالوحدة الذي سيطر عليها، لكنها قررت مواصلة العمل العلمي الذي بدأته مع زوجها تكريماً لذكراه.

رغم الحزن الشديد، أظهرت ماري كوري قوة إرادة استثنائية. عُرض عليها منصب بيير التدريسي في جامعة السوربون، وقبلت التحدي لتصبح أول امرأة تشغل منصب أستاذ في هذه الجامعة العريقة منذ تأسيسها قبل 650 عاماً. ألقت محاضرتها الأولى في نوفمبر 1906 أمام قاعة مكتظة بالحضور، حيث كان الكثيرون فضوليين لرؤية امرأة تقف خلف المنصة التدريسي. بدأت محاضرتها من النقطة التي توقف عندها بيير في آخر محاضرة له، في رمزية مؤثرة على الاستمرارية والوفاء. واصلت ماري كوري أبحاثها بعزيمة أكبر، مصممة على إكمال المسيرة التي بدأتها مع زوجها.

جائزة نوبل الثانية في الكيمياء

واصلت ماري كوري أبحاثها المكثفة حول الراديوم وخصائصه، ونجحت في تطوير طرق لقياس النشاط الإشعاعي بدقة أكبر، وإنتاج الراديوم بشكل أنقى. جهودها الحثيثة أثمرت عن إنجاز تاريخي جديد عندما حصلت على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1911، تقديراً لاكتشافها عنصري الراديوم والبولونيوم، وعزلها الراديوم، ودراستها خصائص هذا العنصر الاستثنائي. بهذا، أصبحت ماري كوري أول شخص في التاريخ يحصل على جائزتي نوبل في مجالين علميين مختلفين، وهو إنجاز لم يتكرر إلا مع العالم لينوس باولينج لاحقاً.

كانت الفترة التي سبقت حصولها على الجائزة الثانية صعبة على ماري كوري، حيث واجهت حملة إعلامية قاسية وتشهيراً شخصياً بسبب علاقة أشيع عنها مع أحد زملائها المتزوجين. رغم المعاملة الجائرة من الصحافة والمجتمع، ظلت صامدة ومركزة على عملها العلمي. سافرت إلى ستوكهولم لتسلم جائزتها الثانية رغم تدهور صحتها، وألقت محاضرة علمية رصينة عن الراديوم. هذه الجائزة عززت مكانة ماري كوري كواحدة من أعظم العلماء في التاريخ، وأكدت أن إنجازاتها العلمية تتجاوز بكثير أي محاولات للنيل من سمعتها الشخصية.

مساهمات ماري كوري في الحرب العالمية الأولى

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، لم تقف ماري كوري مكتوفة الأيدي. استخدمت معرفتها العلمية لخدمة الجرحى من الجنود، حيث أدركت أن الأشعة السينية (X-rays) يمكن أن تساعد الأطباء في تحديد مواقع الرصاص والشظايا في أجساد الجرحى، مما يسهل عمليات الجراحة وينقذ الأرواح. واجهت مشكلة تتمثل في عدم توفر معدات الأشعة السينية في المستشفيات الميدانية القريبة من الجبهات، فقررت إنشاء وحدات أشعة متنقلة.

جمعت ماري كوري التبرعات، واشترت معدات الأشعة السينية، وجهزت عشرين سيارة متنقلة مزودة بأجهزة الأشعة ومولدات كهربائية، أطلق عليها الجنود اسم “بيتيت كوري” أو “كوري الصغيرة”. قادت هذه السيارات بنفسها إلى خطوط الجبهة، رغم المخاطر الكبيرة، وعلمت الممرضات والأطباء كيفية استخدام المعدات. كانت ترافقها ابنتها إيرين البالغة من العمر سبعة عشر عاماً، والتي ساعدتها في هذا العمل الإنساني النبيل. يُقدر أن خدمات ماري كوري ووحداتها المتنقلة ساعدت في علاج أكثر من مليون جندي خلال الحرب.

تأسيس معهد الراديوم والعمل المؤسسي

أسست ماري كوري معهد الراديوم (Radium Institute) في باريس عام 1914، والذي أصبح لاحقاً معهد كوري (Institut Curie)، وهو اليوم من أبرز مراكز الأبحاث الطبية في مجال السرطان. كان حلمها أن يكون هذا المعهد مركزاً متقدماً للأبحاث العلمية حول النشاط الإشعاعي وتطبيقاته الطبية، خاصة في علاج الأورام السرطانية. أدارت ماري كوري المعهد بكفاءة عالية، وجذبت إليه باحثين من مختلف أنحاء العالم، مما جعله منارة علمية مرموقة.

أشرفت ماري كوري على تدريب جيل جديد من الباحثين، ونشرت العديد من الأوراق العلمية حول خصائص النظائر المشعة واستخداماتها. كانت تؤمن بأهمية التعاون الدولي في العلم، ودعمت تبادل المعرفة والخبرات بين العلماء من مختلف البلدان. سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية مرتين، في عامي 1921 و1929، حيث استُقبلت استقبال الأبطال وجُمعت لها تبرعات لشراء الراديوم الذي كان غالي الثمن للغاية. استخدمت هذا الراديوم في أبحاثها وفي تطوير العلاجات الطبية، مما عزز من مكانة معهدها العلمية.

الإرث العلمي والإنجازات البحثية

يُعد الإرث العلمي لماري كوري واسعاً ومتشعباً، فقد وضعت أسس علم النشاط الإشعاعي الذي أدى إلى تطورات هائلة في الفيزياء والكيمياء والطب. اكتشافاتها حول طبيعة الذرة ساهمت في تطوير النماذج الذرية الحديثة، وفتحت الطريق أمام الفيزياء النووية. تطبيقات الراديوم والعناصر المشعة في الطب، خاصة في علاج السرطان من خلال العلاج الإشعاعي (Radiotherapy)، أنقذت ملايين الأرواح على مر العقود.

نشرت ماري كوري أكثر من ثلاثين ورقة علمية مهمة، وألفت كتباً علمية متخصصة. كانت رائدة في استخدام الأساليب الكمية الدقيقة في البحث العلمي، مما رفع من مستوى الدقة والموثوقية في التجارب العلمية. تأثيرها امتد أيضاً إلى الجيل التالي من عائلتها، حيث حصلت ابنتها إيرين جوليو-كوري وزوجها فريدريك جوليو على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1935 عن اكتشافهما النشاط الإشعاعي الاصطناعي. هذا جعل عائلة كوري الأسرة الأكثر حصولاً على جوائز نوبل في التاريخ، بإجمالي خمس جوائز.

التحديات والتضحيات الشخصية

عاشت ماري كوري حياة مليئة بالتضحيات الشخصية في سبيل العلم. عملت في ظروف خطيرة للغاية دون إدراك كامل لمخاطر الإشعاع، حيث لم تكن المخاطر الصحية للمواد المشعة معروفة جيداً في ذلك الوقت. كانت تحمل أنابيب الراديوم في جيوب معطفها، وتحتفظ بها في أدراج مكتبها، وتنبهر بتوهجها في الظلام. هذا التعرض الطويل والمستمر للإشعاع كان له عواقب وخيمة على صحتها.

واجهت ماري كوري أيضاً تحديات اجتماعية ونفسية كبيرة. كامرأة في مجال يهيمن عليه الرجال بالكامل، تعرضت للتشكيك والتمييز والإقصاء في بعض الأحيان. رُفض طلب انضمامها إلى الأكاديمية الفرنسية للعلوم عام 1911 بفارق صوتين فقط، في قرار كان متأثراً بشكل واضح بالتحيز الجنسي السائد آنذاك. رغم كل هذه العقبات، لم تتوقف عن العمل والإنتاج العلمي، مثبتة بذلك أن الكفاءة العلمية لا تعترف بالجنس أو الجنسية.

التأثير الاجتماعي وتمكين المرأة

تُعتبر ماري كوري رمزاً عالمياً لتمكين المرأة وقدرتها على المنافسة والتفوق في المجالات العلمية والأكاديمية. كسرت الحواجز التقليدية التي كانت تمنع النساء من دخول عالم البحث العلمي الأكاديمي، وأثبتت أن العقل والموهبة لا يقتصران على جنس دون آخر. قصة نجاحها ألهمت ولا تزال تلهم ملايين النساء حول العالم لمتابعة أحلامهن العلمية رغم كل العقبات.

كانت ماري كوري واعية لمسؤوليتها كنموذج يُحتذى به، وحرصت على تشجيع النساء على دراسة العلوم والدخول في المجالات البحثية. دعمت طالباتها وزميلاتها بقوة، وفتحت أبواب مختبرها للباحثات من مختلف الجنسيات. تأثيرها لم يقتصر على الجانب العلمي فقط، بل امتد ليشمل تغييراً في النظرة المجتمعية لدور المرأة في المجتمع. أصبحت رمزاً للعمل الجاد والمثابرة والتفاني، قيماً إنسانية عامة تتجاوز حدود الجنس والعرق.

الأوسمة والتكريمات الدولية

حصلت ماري كوري على العديد من الأوسمة والتكريمات من مختلف أنحاء العالم تقديراً لإنجازاتها العلمية الاستثنائية. بالإضافة إلى جائزتي نوبل، منحتها جامعات ومؤسسات علمية عديدة درجات دكتوراه فخرية وعضويات في أكاديميات علمية مرموقة. حصلت على وسام ديفي (Davy Medal) من الجمعية الملكية في لندن، ووسام ماتيوتشي (Matteucci Medal)، وغيرها الكثير من الجوائز والأوسمة الدولية.

تم تكريم ماري كوري بعد وفاتها بطرق متعددة، حيث سُميت باسمها عنصر الكوريوم (Curium) الذي اكتشف عام 1944، ووحدة قياس النشاط الإشعاعي “الكوري” (Curie). أُطلق اسمها على شوارع ومدارس وجامعات في مختلف أنحاء العالم، وأُنتجت أفلام ومسرحيات وكتب لا تُحصى عن حياتها وإنجازاتها. في عام 1995، نُقلت رفاتها ورفات زوجها بيير إلى مبنى البانثيون (Panthéon) في باريس، المخصص لدفن عظماء فرنسا، لتكون أول امرأة تُدفن فيه تقديراً لإنجازاتها الخاصة وليس كزوجة لرجل عظيم.

المساهمات في التعليم ونشر المعرفة

آمنت ماري كوري بعمق بأهمية التعليم ونشر المعرفة العلمية، وكرست جزءاً كبيراً من وقتها للتدريس وإعداد الجيل القادم من العلماء. كانت معلمة متفانية، تحرص على تبسيط المفاهيم العلمية المعقدة لطلابها، وتشجعهم على التفكير النقدي والتجريب العملي. أشرفت على العديد من رسائل الدكتوراه، وشكّلت مدرسة علمية متميزة أنتجت علماء بارزين ساهموا في تطوير علوم الفيزياء والكيمياء.

كتبت ماري كوري أيضاً كتباً علمية مهمة، منها كتاب عن “النشاط الإشعاعي” (Radioactivity) الذي يُعتبر مرجعاً أساسياً في هذا المجال. حرصت على توثيق أبحاثها ونتائجها بدقة علمية عالية، مما سهّل على الأجيال اللاحقة الاستفادة من عملها والبناء عليه. كانت تؤمن أن العلم يجب أن يكون في خدمة البشرية جمعاء، ورفضت أن تسجل براءة اختراع لعملية عزل الراديوم، معتبرة أن المعرفة العلمية يجب أن تكون متاحة للجميع دون قيود تجارية.

الوضع الصحي والأثر الإشعاعي

تدهورت صحة ماري كوري تدريجياً على مر السنين بسبب التعرض المستمر للمواد المشعة. عانت من فقر الدم، والتعب المزمن، وضعف البصر، ومشاكل في الكلى، وكلها أعراض مرتبطة بالتسمم الإشعاعي. في ذلك الوقت، لم تكن المخاطر الصحية للإشعاع مفهومة بشكل كامل، ولم تُتخذ إجراءات الوقاية الكافية. كانت ماري كوري وزملاؤها يتعاملون مع المواد المشعة بأيديهم العارية، دون استخدام دروع واقية أو أجهزة قياس للإشعاع.

رغم تدهور صحتها، استمرت ماري كوري في العمل بلا كلل حتى السنوات الأخيرة من حياتها. رفضت التوقف عن البحث العلمي، معتبرة أن العمل هو معنى حياتها ورسالتها. أوراقها ودفاتر ملاحظاتها لا تزال حتى اليوم شديدة الإشعاع، وتُحفظ في صناديق مبطنة بالرصاص، ويتطلب الاطلاع عليها ارتداء ملابس واقية خاصة. هذا يُظهر مدى خطورة المواد التي كانت تعمل معها يومياً دون حماية كافية.

الوفاة والخاتمة

توفيت ماري كوري في 4 يوليو 1934 في مصحة سانسيليموز (Sancellemoz) في جبال الألب الفرنسية، عن عمر يناهز ستة وستين عاماً. كان السبب الرسمي للوفاة هو فقر الدم اللاتنسجي (Aplastic Anemia)، وهو مرض يصيب نخاع العظام ويمنعه من إنتاج خلايا الدم الكافية، نتيجة التعرض الطويل للإشعاع. حضر جنازتها عائلتها وأصدقاؤها المقربون في مراسم خاصة وبسيطة، وفقاً لرغبتها في عدم إقامة احتفالات مبالغ فيها.

رحلت ماري كوري عن عالمنا تاركة إرثاً علمياً وإنسانياً ضخماً لا يزال تأثيره ممتداً حتى اليوم. قصة حياتها تجسد قيماً نبيلة مثل المثابرة، والتفاني، والشجاعة، والإيمان بالعلم كوسيلة لخدمة البشرية. كانت امرأة استثنائية استطاعت أن تتغلب على كل العقبات الاجتماعية والمادية والشخصية لتحقق إنجازات علمية خالدة. ماري كوري لم تكن مجرد عالمة بارعة، بل كانت رائدة فتحت الطريق أمام أجيال من النساء للدخول إلى المجالات العلمية والمساهمة في تقدم البشرية.

يبقى اسم ماري كوري محفوراً في ذاكرة التاريخ العلمي كواحدة من أعظم العقول التي عرفتها الإنسانية. إنجازاتها في اكتشاف العناصر المشعة وتأسيس علم النشاط الإشعاعي غيرت فهمنا للطبيعة والمادة، وفتحت آفاقاً واسعة في الطب والصناعة والبحث العلمي. إرثها يتجاوز الاكتشافات العلمية ليشمل القيم الإنسانية النبيلة والنضال من أجل المساواة وحق المرأة في التعليم والعمل العلمي. ماري كوري تظل مصدر إلهام لكل من يسعى للمعرفة والتميز، ونموذجاً يُحتذى به في التضحية والإصرار على تحقيق الأهداف رغم كل التحديات.

الأسئلة الشائعة

1. كم عدد جوائز نوبل التي حصلت عليها ماري كوري؟

حصلت ماري كوري على جائزتي نوبل، الأولى في الفيزياء عام 1903 مشاركة مع زوجها بيير كوري والعالم هنري بيكريل تقديراً لأبحاثهم حول النشاط الإشعاعي، والثانية في الكيمياء عام 1911 منفردة عن اكتشاف عنصري الراديوم والبولونيوم وعزل الراديوم النقي. هذا الإنجاز جعلها الشخص الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل في مجالين علميين مختلفين حتى ذلك الوقت، وأول امرأة تحصل على هذه الجائزة المرموقة في التاريخ.

2. ما هي العناصر الكيميائية التي اكتشفتها ماري كوري؟

اكتشفت ماري كوري عنصرين كيميائيين جديدين هما البولونيوم والراديوم عام 1898. أطلقت على العنصر الأول اسم البولونيوم تكريماً لوطنها بولندا، بينما سمي الثاني الراديوم بسبب نشاطه الإشعاعي الشديد. استغرقت عملية عزل الراديوم بشكل نقي أربع سنوات من العمل الشاق، حيث عالجت أطناناً من خام البيتشبلند للحصول على كميات ضئيلة من هذا العنصر النادر والمشع، مما أكد وجوده كعنصر مستقل في الجدول الدوري.

3. أين ولدت ماري كوري وما هو اسمها الأصلي؟

ولدت ماري كوري في وارسو عاصمة بولندا في 7 نوفمبر 1867، وكان اسمها الأصلي ماريا سكوودوفسكا قبل زواجها. نشأت في عائلة بولندية محبة للعلم، حيث كان والدها معلماً للفيزياء والرياضيات. عاشت في بولندا حتى سن الرابعة والعشرين، ثم انتقلت إلى باريس عام 1891 لمتابعة تعليمها الجامعي في جامعة السوربون، حيث تزوجت لاحقاً من العالم الفرنسي بيير كوري وأصبحت تُعرف باسم ماري كوري.

4. كيف توفيت ماري كوري وما علاقة وفاتها بأبحاثها؟

توفيت ماري كوري في 4 يوليو 1934 بسبب فقر الدم اللاتنسجي، وهو مرض نتج عن التعرض الطويل والمستمر للإشعاع خلال سنوات عملها مع المواد المشعة. كانت تتعامل مع الراديوم والبولونيوم دون استخدام وسائل حماية كافية، حيث لم تكن مخاطر الإشعاع مفهومة جيداً في ذلك الوقت. أوراقها ودفاتر ملاحظاتها لا تزال حتى اليوم شديدة الإشعاع، مما يعكس خطورة الظروف التي عملت فيها طوال حياتها المهنية دون إدراك كامل للعواقب الصحية.

5. ما هي مساهمات ماري كوري في الحرب العالمية الأولى؟

خلال الحرب العالمية الأولى، أسست ماري كوري وحدات أشعة سينية متنقلة لخدمة الجرحى في الجبهات، حيث جهزت عشرين سيارة بمعدات الأشعة السينية ومولدات كهربائية أطلق عليها الجنود اسم “بيتيت كوري”. قادت هذه السيارات بنفسها إلى خطوط القتال رغم المخاطر، ودربت الممرضات والأطباء على استخدام المعدات. ساعدتها ابنتها إيرين في هذا العمل الإنساني، ويُقدر أن خدماتها ساهمت في علاج أكثر من مليون جندي، مما أنقذ أرواحاً لا تُحصى.

6. هل كانت ماري كوري أول امرأة تدرّس في جامعة السوربون؟

نعم، أصبحت ماري كوري أول امرأة تشغل منصب أستاذ في جامعة السوربون منذ تأسيسها قبل 650 عاماً. حدث ذلك عام 1906 بعد وفاة زوجها بيير كوري في حادث مأساوي، حيث عُرض عليها منصبه التدريسي فقبلت التحدي. ألقت محاضرتها الأولى في نوفمبر 1906 أمام قاعة مكتظة بالحضور الذين جاؤوا لمشاهدة هذا الحدث التاريخي، وبدأت المحاضرة من النقطة التي توقف عندها بيير في آخر محاضرة له، في رمزية مؤثرة على الاستمرارية.

7. ما هو معهد كوري ومتى تأسس؟

معهد كوري هو مركز أبحاث طبية متخصص في دراسة وعلاج السرطان، تأسس في الأصل عام 1914 باسم معهد الراديوم تحت إدارة ماري كوري. كان هدفها إنشاء مركز متقدم للأبحاث حول النشاط الإشعاعي وتطبيقاته الطبية، خاصة في علاج الأورام السرطانية. أدارت المعهد بكفاءة عالية وجذبت إليه باحثين من مختلف أنحاء العالم. اليوم، يُعد معهد كوري من أبرز المراكز البحثية الطبية في العالم، ويواصل رسالة ماري كوري في خدمة البشرية من خلال البحث العلمي.

8. كم عدد جوائز نوبل التي حصلت عليها عائلة كوري؟

حصلت عائلة كوري على خمس جوائز نوبل، مما يجعلها الأسرة الأكثر حصولاً على هذه الجائزة في التاريخ. حصلت ماري كوري على جائزتين، الأولى في الفيزياء عام 1903 والثانية في الكيمياء عام 1911. حصل زوجها بيير كوري على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903 مشاركة معها. ابنتها إيرين جوليو-كوري وزوجها فريدريك جوليو حصلا على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1935 عن اكتشافهما النشاط الإشعاعي الاصطناعي. كما حصل زوج ابنتها الثانية إيف على جائزة نوبل للسلام.

9. ما هي أهم التطبيقات الطبية لاكتشافات ماري كوري؟

أهم التطبيقات الطبية لاكتشافات ماري كوري تتمثل في العلاج الإشعاعي للسرطان، حيث يُستخدم الإشعاع الصادر من العناصر المشعة لتدمير الخلايا السرطانية. اكتشافها للراديوم والبولونيوم فتح آفاقاً واسعة في الطب النووي، بما في ذلك التشخيص باستخدام النظائر المشعة وعلاج أنواع مختلفة من الأورام. كما ساهمت في تطوير استخدام الأشعة السينية في التشخيص الطبي، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى. هذه التطبيقات أنقذت ملايين الأرواح وما زالت تُستخدم في الطب الحديث.

10. لماذا رفضت ماري كوري تسجيل براءة اختراع لعملية عزل الراديوم؟

رفضت ماري كوري تسجيل براءة اختراع لعملية عزل الراديوم لأنها آمنت بأن المعرفة العلمية يجب أن تكون متاحة للبشرية جمعاء دون قيود تجارية أو احتكار. كانت تعتبر أن العلم يجب أن يخدم الإنسانية، وأن وضع حواجز مالية أمام استخدام الاكتشافات العلمية يتعارض مع الروح العلمية النبيلة. هذا الموقف الأخلاقي حرمها من ثروة مالية كبيرة كان يمكن أن تحصل عليها، لكنه عكس قيمها الإنسانية العميقة وإيمانها بأن العلم ملك للجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى