الفلك

خسوف القمر: استكشاف الظل الأرضي وأثره على القمر الدامي

يمثل خسوف القمر (Lunar Eclipse) إحدى أروع الظواهر الفلكية التي يمكن مشاهدتها من على سطح الأرض. إنها لحظة سماوية فريدة تتجلى فيها دقة الميكانيكا الكونية، حيث تلقي الأرض بظلها على وجه القمر المكتمل، محولةً قرصه الفضي اللامع إلى طيف من الألوان النحاسية أو الحمراء الداكنة. لا تقتصر أهمية هذه الظاهرة على جمالها البصري فحسب، بل تمتد لتشمل جوانب علمية وتاريخية وثقافية عميقة. تقدم دراسة خسوف القمر للعلماء فرصة نادرة لتحليل الغلاف الجوي للأرض عن بعد، كما أنها كانت في الماضي دليلاً دامغاً على كروية كوكبنا. في هذه المقالة الأكاديمية، سنتعمق في الآليات الفيزيائية التي تحكم حدوث خسوف القمر، وأنواعه المختلفة، والظواهر البصرية المصاحبة له، بالإضافة إلى أهميته العلمية والتاريخية، وكيفية رصده وفهمه بشكل كامل. إن فهم خسوف القمر لا يعني فقط فهم حركة الأجرام السماوية، بل هو أيضاً فهم لمكانتنا في هذا النظام الكوني البديع.

الآلية الفلكية لحدوث خسوف القمر

يحدث خسوف القمر نتيجة لتفاعل دقيق ومنظم بين ثلاثة أجرام سماوية رئيسية: الشمس، والأرض، والقمر. لفهم هذه الآلية، يجب أولاً إدراك أن القمر لا يصدر ضوءاً خاصاً به، بل يعكس ضوء الشمس الساقط على سطحه. عندما يدور القمر حول الأرض، وتدور الأرض بدورها حول الشمس، تتغير زوايا الإضاءة باستمرار، مما ينتج عنه أطوار القمر المختلفة التي نراها شهرياً.

الشرط الأساسي لحدوث خسوف القمر هو وجود الأجرام الثلاثة على استقامة واحدة تقريباً، وهو ما يُعرف فلكياً بالاقتران المداري أو “Syzygy”. في هذه الحالة، يجب أن تتوسط الأرض تماماً بين الشمس والقمر. عندما يحدث هذا الاصطفاف، تلقي الأرض، وهي جسم معتم، ظلها في الفضاء. إذا تزامن مرور القمر في مداره مع عبوره داخل هذا الظل، فإن ضوء الشمس الذي كان من المفترض أن يضيئه يُحجب كلياً أو جزئياً، مما يؤدي إلى وقوع خسوف القمر.

هذا الاصطفاف لا يمكن أن يحدث إلا عندما يكون القمر في طور البدر (Full Moon)، حيث يكون وجهه المقابل للأرض مضاءً بالكامل. ومع ذلك، لا يحدث خسوف القمر في كل شهر عند اكتمال القمر. يرجع السبب في ذلك إلى أن مستوى مدار القمر حول الأرض يميل بزاوية تبلغ حوالي 5.1 درجة عن مستوى مدار الأرض حول الشمس (المعروف بدائرة الكسوف – Ecliptic). بسبب هذا الميل، يمر القمر في معظم الأحيان إما فوق ظل الأرض أو أسفله. يحدث خسوف القمر فقط عندما يعبر القمر مستوى دائرة الكسوف بالتزامن مع كونه في طور البدر، وهي لحظة تتقاطع فيها المسارات المدارية بشكل يسمح للقمر بالدخول في ظل الأرض. تُعرف نقاط التقاطع هذه بالعُقد المدارية (Orbital Nodes)، ويجب أن يكون القمر البدر قريباً جداً من إحدى هاتين العقدتين حتى نشهد ظاهرة خسوف القمر.

أنواع خسوف القمر وتصنيفاتها

لا تتشابه جميع ظواهر خسوف القمر، بل تختلف في شدتها ومظهرها اعتماداً على المسار الذي يسلكه القمر عبر ظل الأرض. يتكون ظل الأرض من منطقتين رئيسيتين متميزتين، وبناءً على أي منطقة يمر بها القمر، يمكننا تصنيف خسوف القمر إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

1. خسوف القمر الكلي (Total Lunar Eclipse):
يُعد هذا النوع هو الأكثر إثارة للإعجاب من الناحية البصرية. يحدث خسوف القمر الكلي عندما يمر قرص القمر بأكمله عبر أقتم جزء من ظل الأرض، وهي منطقة تُعرف بالظل التام (Umbra). خلال هذه المرحلة، لا يختفي القمر تماماً، بل يتحول لونه إلى أحمر غامق أو نحاسي، في ظاهرة تُعرف بـ “القمر الدامي” (Blood Moon). هذا اللون الفريد ينتج عن انكسار ضوء الشمس عبر الغلاف الجوي للأرض، والذي سيتم شرحه بالتفصيل لاحقاً. يستغرق مرور القمر عبر الظل التام وقتاً يمكن أن يصل إلى حوالي 107 دقائق في أفضل الظروف، مما يجعل خسوف القمر الكلي حدثاً ممتعاً ومتاحاً للرصد لفترة طويلة نسبياً.

2. خسوف القمر الجزئي (Partial Lunar Eclipse):
يحدث خسوف القمر الجزئي عندما يمر جزء فقط من القمر عبر منطقة الظل التام للأرض (Umbra)، بينما يظل الجزء المتبقي في منطقة الظل الخارجي الأخف، المعروفة بشبه الظل (Penumbra). في هذه الحالة، يبدو وكأن “قضمة” داكنة قد أُخذت من قرص القمر. حجم هذه “القضمة” يعتمد على مدى عمق دخول القمر في الظل التام. يمكن أن يسبق خسوف القمر الجزئي الخسوف الكلي أو يليه، أو يمكن أن يحدث كظاهرة مستقلة إذا لم يكن الاصطفاف بين الشمس والأرض والقمر مثالياً بما يكفي لحدوث خسوف كلي.

3. خسوف القمر شبه الظلي (Penumbral Lunar Eclipse):
هذا هو النوع الأقل وضوحاً وصعوبة في الرصد بالعين المجردة. يحدث خسوف القمر شبه الظلي عندما يمر القمر عبر منطقة شبه الظل (Penumbra) فقط، دون أن يدخل منطقة الظل التام. شبه الظل هي المنطقة التي يتم فيها حجب جزء فقط من ضوء الشمس بواسطة الأرض. نتيجة لذلك، فإن التعتيم الذي يحدث على سطح القمر يكون خفيفاً جداً، ويبدو كظل باهت يغطي قرص القمر. غالباً ما يمر هذا النوع من خسوف القمر دون أن يلاحظه المراقبون العاديون، ويتطلب مراقبين متمرسين أو استخدام أدوات التصوير الفوتوغرافي لرصد التغير الطفيف في إضاءة القمر.

فيزياء ظل الأرض وظاهرة القمر الدامي

لفهم أعمق لظاهرة خسوف القمر، من الضروري تحليل طبيعة ظل الأرض. كما ذكرنا، ينقسم الظل إلى منطقتين: الظل التام (Umbra) وشبه الظل (Penumbra).

  • الظل التام (Umbra): هو المخروط الداكن والمظلم الذي يتكون خلف الأرض، حيث يتم حجب جميع أشعة الشمس المباشرة. أي جرم سماوي يقع داخل هذه المنطقة لن يستقبل أي ضوء مباشر من الشمس.
  • شبه الظل (Penumbra): هي المنطقة الخارجية الأوسع والأخف من الظل، حيث يتم حجب جزء فقط من قرص الشمس. أي راصد يقف على سطح القمر في منطقة شبه الظل سيرى الأرض وهي تحجب جزءاً من الشمس.

لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه خلال خسوف القمر الكلي هو: إذا كان القمر يقع بالكامل في منطقة الظل التام التي من المفترض أن تكون معتمة تماماً، فلماذا لا يختفي القمر عن الأنظار ويتحول بدلاً من ذلك إلى اللون الأحمر؟

الإجابة تكمن في الغلاف الجوي للأرض. يعمل الغلاف الجوي كعدسة عملاقة تقوم بكسر (Refraction) ضوء الشمس وتوجيهه نحو منطقة الظل. أثناء مرور ضوء الشمس عبر الغلاف الجوي، يتشتت معظمه. هذه الظاهرة، المعروفة بـ “تبعثر رايلي” (Rayleigh Scattering)، هي المسؤولة عن لون السماء الأزرق. فالأطوال الموجية القصيرة (مثل الضوء الأزرق والبنفسجي) تتشتت بفعالية أكبر بكثير من الأطوال الموجية الطويلة (مثل الضوء الأحمر والبرتقالي).

لذلك، عندما يمر ضوء الشمس بمحاذاة حافة الأرض، يتشتت الضوء الأزرق بعيداً في الفضاء، بينما يتمكن الضوء الأحمر والبرتقالي من اختراق الغلاف الجوي والانكسار نحو ظل الأرض، ليضيء سطح القمر بلون أحمر خافت. يمكن تشبيه هذا التأثير بضوء جميع شروق الشمس وغروبها على الأرض في تلك اللحظة، والذي يتم إسقاطه على سطح القمر. يعتمد لون وسطوع خسوف القمر الكلي بشكل كبير على حالة الغلاف الجوي للأرض في ذلك الوقت. إذا كان الغلاف الجوي محملاً بالغبار أو الرماد البركاني، فسيكون لونه أحمر داكناً أو بنياً، أما إذا كان نظيفاً وصافياً، فسيبدو القمر بلون نحاسي ساطع.

مقياس دانجون لسطوع خسوف القمر

لتقدير وتصنيف سطوع ولون خسوف القمر الكلي، طور الفلكي الفرنسي أندريه دانجون (André Danjon) مقياساً نوعياً في عشرينيات القرن الماضي، يُعرف بـ “مقياس دانجون” (Danjon Scale). يقسم هذا المقياس الخسوف الكلي إلى خمس فئات، من 0 إلى 4، بناءً على الملاحظة البصرية:

  • L = 0: خسوف داكن جداً. يكون القمر غير مرئي تقريباً، خاصة في منتصف الكلية. يحدث هذا عندما يكون الغلاف الجوي للأرض محملاً بكميات كبيرة من السحب أو الغبار البركاني.
  • L = 1: خسوف داكن. يكون القمر رمادياً أو بنياً، وتفاصيله بالكاد تكون مرئية.
  • L = 2: خسوف أحمر صدئ. يكون هناك مركز ظل داكن، بينما تكون الحافة الخارجية للظل أكثر إشراقاً نسبياً.
  • L = 3: خسوف أحمر قرميدي. عادة ما يكون لظل الأرض حافة ساطعة أو صفراء اللون. هذا هو التصنيف الأكثر شيوعاً لظاهرة خسوف القمر الكلي.
  • L = 4: خسوف نحاسي-أحمر أو برتقالي ساطع جداً. تكون حافة الظل مزرقة وزاهية للغاية. يحدث هذا عندما يكون الغلاف الجوي للأرض نقياً بشكل استثنائي.

يستخدم علماء الفلك هذا المقياس لتقييم شفافية الغلاف الجوي العلوي للأرض، مما يجعل من خسوف القمر أداة علمية قيمة لدراسة كوكبنا.

تكرار خسوف القمر ودورة الساروس

تعتبر ظاهرة خسوف القمر أكثر شيوعاً من كسوف الشمس، أو على الأقل أكثر قابلية للرصد. فبينما لا يمكن رؤية كسوف الشمس الكلي إلا من مسار ضيق جداً على سطح الأرض، يمكن رؤية خسوف القمر من أي مكان في نصف الكرة الأرضية الليلي. في المتوسط، يحدث حوالي خسوفان قمريان كل عام، لكن نوعها يختلف. قد تمر سنوات دون حدوث خسوف القمر الكلي، بينما تشهد سنوات أخرى خسوفين أو أكثر.

يمكن التنبؤ بحدوث خسوف القمر بدقة مذهلة باستخدام دورات فلكية معقدة. أشهر هذه الدورات هي “دورة الساروس” (Saros Cycle)، التي عرفها الفلكيون البابليون القدماء. تمتد دورة الساروس الواحدة لمدة 6,585.3 يوماً (حوالي 18 عاماً و11 يوماً و8 ساعات). بعد انقضاء هذه الفترة، تعود الشمس والأرض والقمر إلى نفس الهندسة الهندسية تقريباً بالنسبة لبعضها البعض. وبالتالي، فإن الخسوف الذي يحدث اليوم سيتكرر بشكل مشابه جداً بعد دورة ساروس واحدة، ولكن سيتم إزاحته بحوالي 120 درجة غرباً على سطح الأرض بسبب الثلث الإضافي من اليوم (8 ساعات). تتيح هذه الدورة للفلكيين التنبؤ بمواعيد وخصائص خسوف القمر لعقود وقرون قادمة. إن التنبؤ الدقيق بظاهرة خسوف القمر يعد شهادة على فهمنا العميق لقوانين الحركة السماوية.

الأهمية التاريخية والعلمية لظاهرة خسوف القمر

لعبت ظاهرة خسوف القمر دوراً محورياً في تاريخ العلم والفكر البشري. في العصور القديمة، كان يُنظر إلى خسوف القمر في كثير من الثقافات على أنه نذير شؤم أو حدث خارق للطبيعة، حيث كانت الأساطير تتحدث عن وحوش أو آلهة تبتلع القمر. ومع ذلك، انتقل البشر تدريجياً من التفسيرات الأسطورية إلى الملاحظات العلمية.

كان الفيلسوف اليوناني أرسطو (Aristotle) من أوائل من استخدموا خسوف القمر كدليل تجريبي على كروية الأرض في القرن الرابع قبل الميلاد. لاحظ أرسطو أن شكل ظل الأرض الذي يقع على القمر أثناء خسوف القمر الجزئي يكون دائماً مستديراً. وجادل بأنه لا يوجد شكل هندسي يلقي ظلاً دائرياً من كل الزوايا الممكنة إلا الكرة. كانت هذه واحدة من أقوى الحجج المبكرة لدعم نموذج الأرض الكروية.

في العصر الحديث، لا يزال خسوف القمر يقدم قيمة علمية كبيرة. كما ذكرنا، يسمح تحليل الضوء المنكسر عبر الغلاف الجوي للأرض للعلماء بدراسة تكوينه، ووجود الهباء الجوي (Aerosols) مثل الغبار والملوثات والرماد البركاني. فعلى سبيل المثال، أدى ثوران بركان بيناتوبو في عام 1991 إلى حدوث خسوف القمر في ديسمبر من نفس العام الذي كان داكناً بشكل استثنائي (L=0 على مقياس دانجون)، مما أكد التأثير الكبير للبراكين على شفافية الغلاف الجوي العالمي.

علاوة على ذلك، يتيح خسوف القمر للعلماء دراسة سطح القمر نفسه. أثناء الخسوف، تنخفض درجة حرارة سطح القمر بشكل سريع ومفاجئ بسبب انقطاع ضوء الشمس. من خلال مراقبة سرعة تبريد مناطق مختلفة على السطح باستخدام التلسكوبات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء، يمكن للعلماء استنتاج خصائص التربة القمرية (Regolith)، مثل كثافتها وحجم حبيباتها. المناطق التي تبرد ببطء من المرجح أن تكون صخرية، بينما المناطق التي تبرد بسرعة تتكون من غبار ناعم وعازل للحرارة. هذه الدراسات حول خسوف القمر تساهم في فهمنا لجيولوجيا القمر.

كيفية رصد وتصوير خسوف القمر

من أجمل ما يميز خسوف القمر أنه حدث فلكي ديمقراطي، يمكن للجميع الاستمتاع به دون الحاجة إلى معدات خاصة أو احتياطات سلامة معقدة، على عكس كسوف الشمس الذي يتطلب نظارات واقية. إن النظر مباشرة إلى خسوف القمر آمن تماماً للعينين.

للحصول على أفضل تجربة رصد، يوصى بالابتعاد عن أضواء المدن الساطعة التي قد تسبب تلوثاً ضوئياً (Light Pollution) وتخفف من روعة المشهد، خاصة خلال مرحلة الخسوف الكلي عندما يصبح القمر خافتاً. على الرغم من أن العين المجردة كافية للاستمتاع بالظاهرة، فإن استخدام منظار بسيط (Binoculars) أو تلسكوب صغير سيكشف عن تفاصيل مذهلة على سطح القمر المظلل، ويبرز تدرجات الألوان من الأحمر النحاسي في المركز إلى الأزرق الفيروزي على الحافة أحياناً.

أما بالنسبة للتصوير الفوتوغرافي، فإن تصوير خسوف القمر يمثل تحدياً ممتعاً. يتطلب الأمر كاميرا يمكن التحكم في إعداداتها يدوياً (مثل كاميرات DSLR أو Mirrorless) وحاملاً ثلاثياً قوياً (Tripod) لمنع الاهتزاز أثناء التعريض الطويل. في بداية خسوف القمر الجزئي، يكون القمر لا يزال ساطعاً، مما يتطلب سرعات غالق سريعة. ولكن مع تقدم الخسوف ودخول القمر في الظل التام، يصبح خافتاً جداً، مما يستلزم زيادة مدة التعريض (Shutter Speed) ورفع حساسية الكاميرا للضوء (ISO). يتيح استخدام عدسة مقربة (Telephoto Lens) التقاط صور مقربة رائعة للقمر، مما يظهر تفاصيل الفوهات والبحار القمرية الملونة بالضوء الأحمر المنكسر. يعتبر التقاط مراحل خسوف القمر المختلفة ودمجها في صورة واحدة مجمعة من المشاريع الشائعة والمجزية لهواة التصوير الفلكي. إن كل خسوف قمر فريد من نوعه، وتوثيقه بالصور هو طريقة رائعة لحفظ ذكرى هذا الحدث الكوني.

خاتمة

في الختام، يظل خسوف القمر أكثر من مجرد ظل عابر على وجه القمر؛ إنه عرض سماوي يجمع بين الجمال البصري والعمق العلمي والأهمية التاريخية. من خلال فهم الآليات الدقيقة التي تحكم هذا الحدث، نكتسب تقديراً أعمق للنظام الشمسي الذي نعيش فيه. إن خسوف القمر هو تذكير دوري بمدى دقة وانتظام حركة الأجرام السماوية، حيث يمكن التنبؤ به قبل قرون من حدوثه. كما أنه نافذة فريدة نطل منها على كوكبنا، حيث يكشف لنا لون القمر المخسوف عن حالة غلافنا الجوي. من إثبات كروية الأرض في العصور القديمة إلى دراسة خصائص التربة القمرية اليوم، استمر خسوف القمر في إلهام الفضول البشري ودفع عجلة المعرفة. لذا، في المرة القادمة التي يُعلن فيها عن حدوث خسوف القمر، فإن الأمر يستحق تخصيص بعض الوقت للخروج والنظر إلى السماء، ليس فقط لمشاهدة عرض ضوئي جميل، بل للتواصل مع إيقاع الكون وفهم قصة العلم المكتوبة في الظلال والألوان عبر الفضاء. إن كل خسوف قمر هو بمثابة درس عملي في الفيزياء الفلكية والتاريخ والجماليات، وهو متاح للجميع.

الأسئلة الشائعة

1. لماذا لا يحدث خسوف القمر كل شهر عند اكتمال البدر؟
الإجابة: على الرغم من أن شرط الاصطفاف (الأرض بين الشمس والقمر) يتحقق شهرياً في طور البدر، إلا أن خسوف القمر لا يحدث كل شهر بسبب الميل المداري. يميل مستوى مدار القمر حول الأرض بزاوية تقدر بحوالي 5.1 درجة عن مستوى مدار الأرض حول الشمس (دائرة الكسوف). نتيجة لهذا الميل، يمر القمر في معظم الشهور إما “فوق” أو “تحت” ظل الأرض. يحدث خسوف القمر فقط عندما يتزامن طور البدر مع عبور القمر لإحدى نقطتي تقاطع مستويي المدارين، واللتين تُعرفان بالعُقدتين القمريتين (Lunar Nodes). هذا التزامن الدقيق لا يحدث إلا مرتين إلى أربع مرات في السنة تقريباً، مما يجعل ظاهرة خسوف القمر حدثاً أقل تكراراً من اكتمال البدر.

2. ما هو التفسير العلمي لظاهرة “القمر الدامي” التي تصاحب خسوف القمر الكلي؟
الإجابة: ظاهرة “القمر الدامي” هي نتيجة مباشرة لتفاعل ضوء الشمس مع الغلاف الجوي للأرض. عندما يكون القمر بالكامل داخل ظل الأرض التام (Umbra) خلال خسوف القمر الكلي، فإنه لا يُحجب عنه الضوء تماماً. بدلاً من ذلك، يعمل الغلاف الجوي للأرض كعدسة عملاقة تقوم بكسر (Refraction) أشعة الشمس وتوجيهها نحو القمر. أثناء مرور هذا الضوء عبر الغلاف الجوي، يتشتت الضوء ذو الطول الموجي القصير (الأزرق والبنفسجي) بفعل جزيئات الهواء، في عملية تُعرف بـ “تبعثر رايلي”. في المقابل، تخترق الأطوال الموجية الطويلة (الأحمر والبرتقالي) الغلاف الجوي بشكل أكثر فعالية، وهي التي تصل في النهاية إلى سطح القمر وتنعكس عنه، مما يمنحه اللون النحاسي أو الأحمر الدموي المميز الذي نراه خلال خسوف القمر الكلي.

3. ما الفرق الجوهري بين الظل التام (Umbra) وشبه الظل (Penumbra) للأرض، وكيف يؤثر ذلك على أنواع خسوف القمر؟
الإجابة: الظل التام وشبه الظل هما منطقتان متميزتان من الظل الذي تلقيه الأرض، ويحددان بشكل مباشر نوع خسوف القمر الذي يحدث.

  • الظل التام (Umbra): هو الجزء المركزي والأكثر قتامة من ظل الأرض، حيث يتم حجب قرص الشمس بالكامل. عندما يدخل القمر كلياً في هذه المنطقة، يحدث خسوف القمر الكلي. وإذا دخل جزء منه فقط، يكون الخسوف جزئياً.
  • شبه الظل (Penumbra): هو الجزء الخارجي الأوسع والأخف من الظل، حيث يتم حجب جزء فقط من قرص الشمس بواسطة الأرض. عندما يمر القمر عبر هذه المنطقة فقط، يحدث خسوف القمر شبه الظلي، والذي يتميز بتعتيم طفيف جداً على سطح القمر يصعب ملاحظته بالعين المجردة.
    وبالتالي، فإن مسار القمر عبر هاتين المنطقتين هو الذي يحدد ما إذا كنا سنشهد خسوفاً كلياً دراماتيكياً، أو خسوفاً جزئياً واضحاً، أو خسوفاً شبه ظلي باهتاً.

4. هل يتطلب رصد خسوف القمر أي احتياطات خاصة للسلامة، وما هي أفضل الطرق لمشاهدته؟
الإجابة: على عكس كسوف الشمس، الذي يمكن أن يسبب ضرراً دائماً للعين إذا تم النظر إليه مباشرة، فإن رصد خسوف القمر آمن تماماً ولا يتطلب أي احتياطات خاصة للسلامة. يمكن مشاهدة جميع مراحل خسوف القمر، بما في ذلك المراحل الجزئية والكلية، بالعين المجردة دون أي خطر. وللحصول على تجربة رصد مثالية، يُنصح بالابتعاد عن مصادر التلوث الضوئي في المدن والبحث عن مكان مظلم بسماء صافية. في حين أن العين المجردة كافية للاستمتاع بالحدث، فإن استخدام منظار بسيط أو تلسكوب صغير سيعزز التجربة بشكل كبير، حيث يكشف عن تفاصيل دقيقة على سطح القمر، مثل الفوهات والبحار القمرية، ويبرز التدرجات اللونية الرائعة أثناء مرحلة الخسوف الكلي.

5. ما هي “دورة الساروس” (Saros Cycle)، وما دورها في التنبؤ بحدوث خسوف القمر؟
الإجابة: دورة الساروس هي فترة زمنية فلكية تبلغ حوالي 6,585.3 يوماً (18 عاماً و11 يوماً و8 ساعات)، استخدمها الفلكيون القدماء، ولا سيما البابليون، للتنبؤ بالخسوف والكسوف. بعد انقضاء هذه الفترة، تعود الشمس والأرض والقمر إلى نفس المواقع الهندسية تقريباً بالنسبة لبعضها البعض، ويعود القمر إلى نفس الطور ونفس المسافة من الأرض تقريباً، ويكون عند نفس العقدة المدارية. نتيجة لذلك، فإن أي خسوف قمر يحدث اليوم سوف يتكرر بشكل مشابه جداً بعد دورة ساروس واحدة. هذه الدورة ليست لانهائية؛ فكل سلسلة من الخسوفات (تُعرف بسلسلة ساروس) تبدأ وتتطور وتنتهي على مدى قرون. إن فهم دورة الساروس يسمح للفلكيين بالتنبؤ بدقة بمواعيد وخصائص خسوف القمر في المستقبل، مما يجعلها أداة تنبؤية قوية بشكل لا يصدق.

6. كيف يستخدم العلماء ظاهرة خسوف القمر كأداة لدراسة الغلاف الجوي للأرض وسطح القمر؟
الإجابة: يوفر خسوف القمر فرصة علمية فريدة لدراسة كل من الأرض والقمر.

  • دراسة الغلاف الجوي للأرض: من خلال تحليل طيف الضوء الأحمر الذي يمر عبر الغلاف الجوي للأرض ويصل إلى القمر، يمكن للعلماء تحديد مكونات الغلاف الجوي، بما في ذلك وجود الهباء الجوي (Aerosols) مثل الغبار البركاني والملوثات. سطوع ولون خسوف القمر الكلي (كما يُقاس بمقياس دانجون) يعطي مؤشراً مباشراً على مدى شفافية الغلاف الجوي العلوي للأرض.
  • دراسة سطح القمر: أثناء الخسوف، ينقطع الإشعاع الشمسي عن سطح القمر فجأة، مما يؤدي إلى انخفاض سريع في درجة حرارته. باستخدام التلسكوبات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء، يمكن للعلماء قياس معدل تبريد مناطق مختلفة. المناطق التي تحتفظ بالحرارة لفترة أطول (تبرد ببطء) تكون صخرية، بينما المناطق التي تبرد بسرعة تتكون من طبقة سميكة من الغبار القمري الناعم (الريغولث)، الذي يعمل كعازل حراري ضعيف. هذا يساعد في رسم خرائط للخصائص الحرارية لسطح القمر.

7. ما هو “مقياس دانجون” (Danjon Scale)، وكيف يساعد في تصنيف شدة وسطوع خسوف القمر الكلي؟
الإجابة: مقياس دانجون هو مقياس وصفي من خمس نقاط (من L=0 إلى L=4) يستخدمه الفلكيون لتقييم السطوع واللون البصري لظاهرة خسوف القمر الكلي. المقياس هو كالتالي:

  • L=0: خسوف داكن جداً، القمر يكاد يكون غير مرئي.
  • L=1: خسوف داكن، رمادي أو بني اللون مع تفاصيل قليلة.
  • L=2: خسوف أحمر صدئ، مع مركز ظل داكن وحافة أكثر إشراقاً.
  • L=3: خسوف أحمر قرميدي، مع حافة ساطعة أو صفراء.
  • L=4: خسوف نحاسي-أحمر ساطع جداً، مع حافة زرقاء محتملة.
    يعتمد التصنيف على كمية الضوء التي ينكسرها الغلاف الجوي للأرض، والذي يتأثر بشكل مباشر بوجود السحب والرماد البركاني. بالتالي، لا يُستخدم المقياس لوصف خسوف القمر فحسب، بل كأداة غير مباشرة لقياس شفافية الغلاف الجوي لكوكبنا.

8. ما هي الفروقات الرئيسية بين خسوف القمر وكسوف الشمس من حيث الآلية الفلكية وقابلية الرصد؟
الإجابة: على الرغم من أن كلتا الظاهرتين تنطويان على اصطفاف ثلاثة أجرام، إلا أن هناك فروقات جوهرية:

  • الآلية: في خسوف القمر، تتوسط الأرض بين الشمس والقمر، وتلقي الأرض بظلها على القمر. أما في كسوف الشمس، فيتوسط القمر بين الشمس والأرض، ويلقي القمر بظله الصغير على الأرض.
  • طور القمر: يحدث خسوف القمر فقط عند اكتمال القمر (البدر)، بينما يحدث كسوف الشمس فقط عند ولادة القمر الجديد (المحاق).
  • قابلية الرصد: يمكن رؤية خسوف القمر من أي مكان في نصف الكرة الأرضية الليلي، حيث يستمر الحدث لعدة ساعات ويكون متاحاً لملايين أو مليارات الأشخاص في وقت واحد. في المقابل، يكون ظل القمر على الأرض صغيراً جداً، لذا لا يمكن رؤية كسوف الشمس الكلي إلا من مسار ضيق جداً (مسار الكلية)، مما يجعله حدثاً نادراً ومحلياً جداً.

9. ما الذي يحدد مدة استمرار خسوف القمر الكلي، وما هي أطول مدة ممكنة له؟
الإجابة: تعتمد مدة خسوف القمر الكلي على عاملين رئيسيين:

  1. مسار القمر عبر ظل الأرض: تكون المدة أطول ما يمكن عندما يمر القمر عبر مركز ظل الأرض (Umbra)، حيث يكون الظل في أوسع نقطة له. إذا مر القمر بالقرب من حافة الظل، فإن مدة الكلية تكون أقصر بكثير.
  2. المسافة بين الأرض والقمر: عندما يكون القمر في أبعد نقطة له عن الأرض في مداره (الأوج – Apogee)، تكون سرعته المدارية أبطأ، وبالتالي يستغرق وقتاً أطول لعبور ظل الأرض.
    تحت أفضل الظروف الممكنة (مرور مركزي والقمر عند الأوج)، يمكن أن تستمر مرحلة خسوف القمر الكلي لمدة تصل إلى ساعة و 47 دقيقة (107 دقائق)، مما يجعله حدثاً سماوياً ممتعاً ومتاحاً للرصد لفترة طويلة.

10. ما هو سبب ظهور حافة فيروزية أو زرقاء أحياناً على قرص القمر في بداية ونهاية الخسوف الكلي؟
الإجابة: الحافة الفيروزية، التي تُعرف أحياناً بـ “الوميض الفيروزي”، هي ظاهرة بصرية دقيقة يمكن ملاحظتها خلال خسوف القمر الكلي. سببها هو طبقة الأوزون (Ozone layer) في طبقة الستراتوسفير العليا من الغلاف الجوي للأرض. بينما يقوم الغلاف الجوي السفلي بتشتيت الضوء الأزرق والسماح للضوء الأحمر بالمرور، فإن طبقة الأوزون تمتص الضوء الأحمر والبرتقالي بكفاءة عالية. عندما يمر ضوء الشمس عبر طبقة الأوزون فقط (في الارتفاعات العالية جداً)، يتم امتصاص الجزء الأحمر من الطيف، مما يسمح للضوء الأزرق والفيروزي بالمرور والانكسار نحو القمر. تظهر هذه الحافة الرقيقة والجميلة لفترة وجيزة عندما يبدأ القمر بالدخول إلى الظل التام أو عند خروجه منه، حيث يمر الضوء المنكسر عبر هذه الطبقة العليا تحديداً من الغلاف الجوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى