علماء

إسحاق نيوتن: قوانين الحركة والجاذبية التي أعادت تعريف الكون

تحليل شامل لإرث العالم الذي وضع أسس الفيزياء الكلاسيكية وصاغ فهمنا للكون المادي

مقدمة: فجر عصر جديد في العلم

يُعد إسحاق نيوتن (Sir Isaac Newton) شخصية محورية في تاريخ الفكر البشري، ورمزاً للثورة العلمية التي غيرت مسار الحضارة إلى الأبد. ففي فترة زمنية لم تتجاوز بضعة عقود، استطاع هذا العقل الفذ أن يضع الأسس الراسخة لما يُعرف اليوم بالفيزياء الكلاسيكية، مقدماً للعالم مجموعة من القوانين والنظريات التي لم تفسر الظواهر الطبيعية المعروفة فحسب، بل مكنت البشرية من التنبؤ بها بدقة رياضية مذهلة.

إن إرث إسحاق نيوتن يتجاوز كونه مجرد اكتشافات علمية؛ إنه يمثل تحولاً منهجياً في كيفية تعاطي الإنسان مع العالم الطبيعي، حيث أحلّ التحليل الرياضي الدقيق والتجربة المنهجية محل التكهنات الفلسفية القديمة. على الرغم من أن إسحاق نيوتن كان عالم رياضيات عبقرياً بشكل لا يصدق، وواحداً من مؤسسي علم التفاضل والتكامل، إلا أن شهرته الأوسع والأكثر تأثيراً تأتي من إسهاماته الجوهرية في الفيزياء، وتحديداً من خلال قوانينه الثلاثة في الحركة وقانون الجاذبية الكونية.

لقد قدم إسحاق نيوتن إطاراً نظرياً متكاملاً استطاع أن يوحد بين حركة الأجسام على الأرض وحركة الأجرام في السماء، في رؤية كونية شاملة ظلت مهيمنة لأكثر من مائتي عام. هذه المقالة تسعى إلى استعراض وتحليل الإنجازات الفيزيائية العظيمة التي حققها إسحاق نيوتن، مع التركيز على الكيفية التي شكلت بها قوانينه في الحركة والجاذبية حجر الزاوية في صرح الفيزياء الحديثة.

السنوات المبكرة وتكوين العبقرية

وُلد إسحاق نيوتن في 4 يناير 1643، في وولسثورب، لينكولنشاير، إنجلترا، في عام وفاة غاليليو غاليلي، وكأن القدر كان يسلم شعلة العلم من يد إلى أخرى. كانت طفولته صعبة، حيث وُلد قبل أوانه وتُوفي والده قبل ولادته بثلاثة أشهر. التحق إسحاق نيوتن بكلية ترينيتي في كامبريدج عام 1661، حيث انغمس في دراسة أعمال الفلاسفة والعلماء الكبار مثل أرسطو، وديكارت، وكوبرنيكوس، وكيبلر، وغاليليو. ومع ذلك، لم يكتفِ إسحاق نيوتن باستيعاب المعرفة القائمة، بل سرعان ما بدأ في تجاوزها وتحديها.

كانت الفترة الأكثر إنتاجية في حياة إسحاق نيوتن هي سنوات العزل التي قضاها في منزله بوولسثورب بين عامي 1665 و 1667، هرباً من وباء الطاعون العظيم الذي أغلق جامعة كامبريدج. خلال هذه الفترة، التي أطلق عليها لاحقاً “Annus Mirabilis” أو “عام العجائب”، وضع إسحاق نيوتن أسس أعماله المستقبلية في ثلاثة مجالات رئيسية: علم التفاضل والتكامل (الذي أطلق عليه “method of fluxions”)، ونظرياته في علم البصريات وطبيعة الضوء، والأهم من ذلك، مبادئه الأولية حول قوانين الحركة والجاذبية. إن هذه الفترة من العزلة الفكرية المكثفة هي التي شهدت ولادة الأفكار التي ستغير العالم، والتي ستجعل من اسم إسحاق نيوتن مرادفاً للعبقرية العلمية.

قوانين الحركة: حجر الزاوية في فيزياء إسحاق نيوتن

تُعد قوانين الحركة الثلاثة التي صاغها إسحاق نيوتن ونشرها في كتابه الأيقوني “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية” عام 1687، العمود الفقري للميكانيكا الكلاسيكية (Classical Mechanics). هذه القوانين لم تكن مجرد ملاحظات تجريبية، بل كانت تعميمات رياضية دقيقة تصف العلاقة بين القوة والحركة بطريقة لم يسبق لها مثيل.

القانون الأول: قانون القصور الذاتي (The Law of Inertia)
ينص قانون إسحاق نيوتن الأول على أن “كل جسم يبقى في حالة سكون أو حركة منتظمة في خط مستقيم ما لم تؤثر عليه قوة خارجية تغير من حالته”. هذا القانون، الذي يستند إلى أعمال غاليليو السابقة، كان ثورياً لأنه دحض الفكرة الأرسطية القديمة التي كانت تفترض أن الحالة الطبيعية للأجسام هي السكون، وأن الحركة تتطلب قوة مستمرة للحفاظ عليها. أوضح إسحاق نيوتن أن الأجسام بطبيعتها “تقاوم” التغيير في حركتها، وهذا ما يُعرف بالقصور الذاتي. فجسم في الفضاء الخالي، بعيداً عن أي تأثير خارجي، سيستمر في التحرك بسرعة ثابتة وفي خط مستقيم إلى الأبد. هذا المفهوم كان ضرورياً لفهم حركة الكواكب، التي لا تحتاج إلى “دفع” مستمر للحفاظ على دورانها، بل تتأثر بقوة الجاذبية التي تغير اتجاه حركتها باستمرار. لقد أعاد قانون إسحاق نيوتن الأول تعريف الحالة الطبيعية للحركة ومهد الطريق لقانونيه التاليين.

القانون الثاني: العلاقة بين القوة والكتلة والتسارع (The Law of Acceleration)
يُعتبر قانون إسحاق نيوتن الثاني القانون المركزي في الميكانيكا، حيث يقدم تعريفاً كمياً للقوة. ينص القانون على أن “تسارع جسم ما يتناسب طردياً مع القوة المحصلة المؤثرة عليه، وعكسياً مع كتلته”. يمكن التعبير عن هذا القانون بالمعادلة الرياضية الشهيرة: F = ma (القوة = الكتلة × التسارع). هذا القانون البسيط في شكله، عميق في معناه، فهو يربط بين عالم الحركة (التسارع) وعالم المسببات (القوة) من خلال خاصية جوهرية للمادة هي الكتلة (Mass)، التي عرّفها إسحاق نيوتن على أنها مقياس لقصور الجسم الذاتي. بفضل هذا القانون، لم يعد العلماء يصفون الحركة فقط، بل أصبح بإمكانهم حسابها والتنبؤ بها بدقة. إذا عرفنا القوى المؤثرة على جسم ما وكتلته، يمكننا حساب تسارعه، وبالتالي معرفة مساره وسرعته في أي لحظة زمنية. إن عبقرية إسحاق نيوتن تتجلى في تحويل مفهوم “القوة” من فكرة فلسفية غامضة إلى كمية فيزيائية قابلة للقياس والحساب.

القانون الثالث: قانون الفعل ورد الفعل (The Law of Action and Reaction)
يكمل قانون إسحاق نيوتن الثالث هذا الصرح النظري، حيث ينص على أن “لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه”. هذا يعني أن القوى تأتي دائماً في أزواج. عندما تضغط بيدك على جدار (فعل)، فإن الجدار يضغط على يدك بنفس القوة ولكن في الاتجاه المعاكس (رد فعل). هذا القانون أساسي لفهم التفاعلات بين الأجسام. فهو يفسر كيف يمكن للصواريخ أن تتحرك في الفضاء الخالي عن طريق قذف الغازات إلى الخلف، وكيف نمشي على الأرض عن طريق دفعها إلى الخلف بأقدامنا. إن الفهم العميق الذي قدمه إسحاق نيوتن لطبيعة القوى المتبادلة سمح ببناء إطار متكامل يمكن تطبيقه على أي نظام ميكانيكي، من تصادم كرات البلياردو إلى تفاعل الكواكب مع بعضها البعض. كانت قوانين إسحاق نيوتن الثلاثة للحركة بمثابة الأبجدية الجديدة التي كُتبت بها لغة الكون المادي.

قانون الجاذبية الكونية: توحيد الأرض والسماء

إذا كانت قوانين الحركة هي قواعد اللغة، فإن قانون الجاذبية الكونية (The Law of Universal Gravitation) هو القصيدة الملحمية التي كتبها إسحاق نيوتن بهذه اللغة. قبل إسحاق نيوتن، كان يُعتقد أن القوانين التي تحكم حركة الأجسام على الأرض تختلف عن تلك التي تحكم حركة الأجرام السماوية. كان يُنظر إلى السماء على أنها عالم مثالي ومنفصل. لكن إسحاق نيوتن، في واحدة من أروع لحظات التوحيد الفكري في تاريخ العلم، أعلن أن القوة التي تجعل التفاحة تسقط من الشجرة هي نفسها القوة التي تبقي القمر في مداره حول الأرض، والكواكب في مداراتها حول الشمس.

تقول الأسطورة الشهيرة أن فكرة الجاذبية واتت إسحاق نيوتن عندما رأى تفاحة تسقط من شجرة. بغض النظر عن صحة القصة، فإن الفكرة الجوهرية كانت عبقرية: حركة السقوط الحر للتفاحة وحركة دوران القمر كلاهما نتاج لنفس القوة، وهي قوة الجذب. القمر في الحقيقة “يسقط” باستمرار نحو الأرض، ولكن سرعته الأفقية الكبيرة تجعله “يخطئ” الأرض باستمرار، مما ينتج عنه مسار مداري.

صاغ إسحاق نيوتن هذا المفهوم في قانون رياضي دقيق ينص على أن “كل جسيمين في الكون يجذب أحدهما الآخر بقوة تتناسب طردياً مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسياً مع مربع المسافة بين مركزيهما”. يُعبر عن ذلك بالمعادلة:
F = G (m1 * m2) / r^2
حيث F هي قوة الجاذبية، m1 و m2 هما كتلتا الجسمين، r هي المسافة بينهما، و G هو ثابت الجاذبية الكونية، وهو ثابت عالمي لا يتغير في أي مكان في الكون.

كان هذا القانون إنجازاً فكرياً هائلاً. لقد قدم تفسيراً رياضياً دقيقاً لقوانين كيبلر التجريبية لحركة الكواكب، وشرح سبب دوران الكواكب في مدارات إهليلجية. كما فسر ظواهر معقدة مثل المد والجزر، موضحاً أنها ناتجة عن قوة الجذب المتفاوتة للقمر والشمس على محيطات الأرض. لم يعد الكون مكاناً تحكمه أهواء غامضة، بل أصبح نظاماً ميكانيكياً عملاقاً، أشبه بساعة دقيقة، يمكن فهم حركته والتنبؤ بها من خلال القوانين التي اكتشفها إسحاق نيوتن. إن توحيد الميكانيكا الأرضية والسماوية كان إنجاز إسحاق نيوتن الأكبر، وأرسى نموذجاً للكون استمر في الهيمنة على الفكر العلمي حتى ظهور نظرية النسبية لألبرت أينشتاين.

كتاب “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية”: تحفة إسحاق نيوتن الخالدة

لم يكتفِ إسحاق نيوتن باكتشاف هذه القوانين، بل قدمها للعالم في عمل ضخم ومنظم بشكل صارم، وهو كتابه “Philosophiæ Naturalis Principia Mathematica” (الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية)، الذي نُشر عام 1687. يُعتبر هذا الكتاب، المعروف اختصاراً بـ “المبادئ” (Principia)، واحداً من أهم الأعمال العلمية في التاريخ، إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

في هذا الكتاب، لم يعرض إسحاق نيوتن نتائجه فحسب، بل بنى نظاماً كاملاً من الأدلة المنطقية والرياضية، بدءاً من تعريفات أساسية للمكان والزمان والكتلة، مروراً بقوانين الحركة، وصولاً إلى تطبيق هذه القوانين لشرح حركة المقذوفات، والبندولات، والكواكب، والمذنبات. لقد استخدم إسحاق نيوتن الهندسة الكلاسيكية والتفاضل والتكامل (الذي قدمه في شكل هندسي) لإثبات نظرياته بدقة لا تقبل الجدل. كان كتاب “المبادئ” هو الإعلان الرسمي عن ولادة العلم الحديث، الذي يعتمد على صياغة الفرضيات في شكل رياضي واختبارها من خلال الملاحظة والتجربة. إن أسلوب إسحاق نيوتن الصارم ومنهجيته الدقيقة جعلا من عمله نموذجاً يحتذى به للأجيال القادمة من العلماء.

إسهامات إسحاق نيوتن في علم البصريات: تفكيك الضوء الأبيض

على الرغم من أن شهرة إسحاق نيوتن ترتبط بشكل أساسي بالميكانيكا والجاذبية، إلا أن عمله في علم البصريات (Optics) كان ثورياً بالقدر نفسه. في سلسلة من التجارب البارعة التي أجراها باستخدام المنشور الزجاجي (Prism)، أثبت إسحاق نيوتن أن الضوء الأبيض ليس نقياً كما كان يُعتقد، بل هو مزيج من جميع ألوان الطيف. عندما مرر شعاعاً ضيقاً من ضوء الشمس عبر منشور، تحلل الضوء إلى ألوان قوس قزح. والأهم من ذلك، أنه استخدم منشوراً ثانياً معكوساً ليثبت أنه يمكن إعادة تجميع هذه الألوان لإنتاج الضوء الأبيض مرة أخرى. كانت هذه التجربة، التي تُعرف بـ “التجربة الحاسمة” (Experimentum Crucis)، دليلاً قاطعاً على الطبيعة المركبة للضوء.

بناءً على تجاربه، اقترح إسحاق نيوتن النظرية الجسيمية للضوء (Corpuscular theory of light)، والتي تفترض أن الضوء يتكون من جسيمات دقيقة (corpuscles) تنتقل في خطوط مستقيمة. على الرغم من أن هذه النظرية تم استبدالها لاحقاً بالنظرية الموجية، ثم بنظرية الكم التي تجمع بين الطبيعتين الجسيمية والموجية، إلا أن عمل إسحاق نيوتن التجريبي كان لا تشوبه شائبة ووضع أسس علم البصريات الفيزيائي الحديث. كما أدت دراساته للضوء إلى اختراع عملي مهم، وهو التلسكوب العاكس (Reflecting telescope)، الذي استخدم المرايا بدلاً من العدسات لتجنب مشكلة الزيغ اللوني (Chromatic aberration) التي كانت تعاني منها التلسكوبات الكاسرة في ذلك الوقت، وهو تصميم لا يزال أساساً للعديد من التلسكوبات الفلكية الكبيرة اليوم. إن عمل إسحاق نيوتن في البصريات يظهر مدى اتساع نطاق عبقريته.

التفاضل والتكامل: الأداة الرياضية التي صاغها إسحاق نيوتن

كانت الفيزياء التي أراد إسحاق نيوتن وصفها هي فيزياء التغيير المستمر: الكواكب تتسارع وتبطئ في مداراتها، والمقذوفات تغير سرعتها واتجاهها باستمرار. لم تكن الرياضيات التقليدية كافية لوصف هذه الظواهر الديناميكية. لذلك، طور إسحاق نيوتن فرعاً جديداً وقوياً من الرياضيات أطلق عليه “نظرية التدفقات” (Method of Fluxions)، وهو ما نعرفه اليوم باسم علم التفاضل والتكامل (Calculus). سمحت له هذه الأداة الرياضية الجديدة بحساب المعدلات اللحظية للتغير (المشتقات) والمساحات والمجاميع المتراكمة (التكاملات). كان التفاضل والتكامل هو اللغة المثالية لوصف الكون الميكانيكي الذي تصوره إسحاق نيوتن.

وعلى الرغم من أنه دخل في نزاع مرير مع الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني غوتفريد لايبنتز حول أسبقية الاختراع، يتفق المؤرخون اليوم على أن كلا الرجلين طورا حساب التفاضل والتكامل بشكل مستقل. لكن الأهم من ذلك، أن إسحاق نيوتن هو الذي استخدمه ببراعة كأداة أساسية لحل المشاكل الفيزيائية الكبرى في عصره، مما يثبت أن عبقريته الرياضية كانت في خدمة رؤيته الفيزيائية الأعمق.

السنوات الأخيرة والإرث الدائم: إسحاق نيوتن رجل الدولة والعلم

بعد نشر “المبادئ”، تراجعت وتيرة اكتشافات إسحاق نيوتن العلمية بشكل كبير. انتقل إلى لندن في عام 1696، حيث تولى منصباً حكومياً مهماً كرئيس لدار سك العملة الملكية (Royal Mint)، وهو الدور الذي قام به بجدية وكفاءة ملحوظة، حيث أشرف على عملية إعادة صك العملة الإنجليزية. كما انتُخب رئيساً للجمعية الملكية (Royal Society) في عام 1703، وظل في هذا المنصب حتى وفاته. في هذه الأدوار، تحول إسحاق نيوتن من عالم منعزل إلى شخصية عامة نافذة ومهيمنة في المشهد العلمي والسياسي البريطاني.

توفي إسحاق نيوتن في عام 1727 ودُفن في كنيسة وستمنستر، وهو تكريم لم يُمنح لعالم من قبل. إرثه لا يقاس فقط بقوانينه ومعادلاته، بل بالنموذج الفكري الذي أرساه. لقد أظهر إسحاق نيوتن أن الكون ليس غامضاً ولا يمكن التنبؤ به، بل هو نظام منظم تحكمه قوانين رياضية عالمية يمكن اكتشافها من خلال العقل البشري. لقد خلق “النظرة النيوتونية للعالم” (Newtonian Worldview)، وهي رؤية ميكانيكية للكون كنظام يمكن التنبؤ به، والتي شكلت أساس التقدم التكنولوجي والصناعي في القرون التالية.

حتى عندما جاء أينشتاين في أوائل القرن العشرين وأظهر أن قوانين إسحاق نيوتن هي حالة تقريبية لا تنطبق على السرعات العالية جداً أو في مجالات الجاذبية الشديدة، فإن ذلك لم يقلل من عظمة إنجازه. فلا تزال فيزياء إسحاق نيوتن دقيقة بما يكفي لإرسال مركبات فضائية إلى الكواكب الأخرى وتصميم الجسور وناطحات السحاب. إن اسم إسحاق نيوتن سيبقى إلى الأبد محفوراً في تاريخ العلم كواحد من أعظم العقول التي أنجبتها البشرية. لقد كانت رؤية إسحاق نيوتن هي التي أطلقت العصر الحديث.

خاتمة: إسحاق نيوتن والتحول الجذري في فهم الكون

في الختام، لا يمكن المبالغة في تقدير أهمية إسحاق نيوتن في تاريخ العلم. لقد ورث عالماً كانت فيه الفيزياء لا تزال تتلمس طريقها للخروج من ظلال الفلسفة القديمة، وتركه عالماً له أسس رياضية صلبة ومنهجية علمية واضحة. من خلال قوانينه الثلاثة للحركة وقانون الجاذبية الكونية، لم يقدم إسحاق نيوتن مجرد إجابات، بل قدم إطاراً كاملاً لطرح الأسئلة الصحيحة حول العالم المادي. لقد أثبت أن نفس القوانين التي تحكم الظواهر اليومية على الأرض تنطبق على أبعد الأجرام السماوية، محققاً بذلك حلماً قديماً للعلماء والفلاسفة في توحيد الكون.

إن العالم بعد إسحاق نيوتن كان مكاناً مختلفاً؛ لقد أصبح كوناً منطقياً، قابلاً للفهم، ويمكن التنبؤ به. إن عمل إسحاق نيوتن لم يكن مجرد تتويج للثورة العلمية، بل كان انطلاقتها الحقيقية نحو العصر الحديث، مما جعله بجدارة واستحقاق أحد العمالقة الذين بنيت على أكتافهم صروح العلم والمعرفة الإنسانية. إن مساهمات إسحاق نيوتن هي شهادة خالدة على قوة العقل البشري في كشف أسرار الكون.

الأسئلة الشائعة

1. ما هي الأهمية الحقيقية لكتاب إسحاق نيوتن “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية” (Principia) في تاريخ العلم؟

تكمن الأهمية الجوهرية لكتاب “المبادئ” في كونه لم يكن مجرد عرض للاكتشافات، بل كان بمثابة تأسيس لمنهجية علمية جديدة تماماً. قبل نيوتن، كان العلم مزيجاً من الملاحظة التجريبية والتكهنات الفلسفية. أما كتاب “المبادئ” فقد قدم نموذجاً صارماً يعتمد على الاستنتاج الرياضي المنطقي انطلاقاً من مجموعة صغيرة من المبادئ الأولية (القوانين الثلاثة للحركة). لقد أظهر إسحاق نيوتن كيف يمكن للرياضيات أن تكون لغة الطبيعة، وكيف يمكن من خلالها بناء نظام متكامل يصف حركة الأجسام من سقوط تفاحة إلى دوران الكواكب. الأهمية لا تقتصر على محتواه (قوانين الحركة والجاذبية)، بل في منهجه الذي أصبح النموذج المعتمد للفيزياء النظرية لقرون تالية، حيث يتم بناء النظريات على أسس رياضية دقيقة ثم التحقق منها تجريبياً.

2. هل “دحضت” نظرية النسبية لأينشتاين فيزياء إسحاق نيوتن؟

لا، لم تدحضها بل وسّعتها وحددت مجال صلاحيتها. العلاقة بين فيزياء نيوتن وفيزياء أينشتاين هي علاقة “احتواء” وليست علاقة “إلغاء”. قوانين إسحاق نيوتن تعمل بدقة مذهلة في الظروف التي نختبرها في حياتنا اليومية (سرعات منخفضة مقارنة بسرعة الضوء ومجالات جاذبية ضعيفة). فيزياء نيوتن هي حالة تقريبية ممتازة للنسبية العامة في هذه الظروف. يمكن اعتبار معادلات نيوتن ناتجاً لمعادلات أينشتاين عندما تكون السرعات والجاذبية ضمن الحدود “الطبيعية”. لذلك، لا تزال الميكانيكا النيوتونية هي الأداة المستخدمة في معظم التطبيقات الهندسية والعملية، مثل إطلاق الأقمار الصناعية، وتصميم المركبات، وحساب مسارات المقذوفات، لأنها أبسط رياضياً وتوفر دقة كافية تماماً لهذه الأغراض.

3. كيف تمكن إسحاق نيوتن من توحيد الميكانيكا الأرضية والسماوية؟

كانت هذه إحدى أعظم قفزات نيوتن الفكرية. قبل نيوتن، ساد الاعتقاد الأرسطي بأن هناك مجموعتين من القوانين الفيزيائية: واحدة للأرض (حيث تتحرك الأجسام في خطوط مستقيمة وتسقط نحو المركز)، وأخرى للسماء (حيث تتحرك الأجرام السماوية في دوائر مثالية). الخطوة الحاسمة التي اتخذها إسحاق نيوتن كانت افتراض أن القوانين الطبيعية “عالمية” (Universal). لقد أدرك أن القوة التي تجذب التفاحة نحو الأرض هي من نفس طبيعة القوة التي تبقي القمر في مداره حول الأرض. من خلال قانونه للجاذبية الكونية (الذي يعتمد على الكتل والمسافة)، أثبت رياضياً أن تسارع القمر في “سقوطه” المستمر نحو الأرض يتفق تماماً مع تسارع الأجسام الساقطة على سطح الأرض، بعد الأخذ في الاعتبار بعد القمر الهائل. هذا البرهان الرياضي كان دليلاً قاطعاً على أن نفس القانون يحكم كلا الظاهرتين، مما أدى إلى انهيار الفصل القديم بين الأرض والسماء.

4. ما هو مفهوم “الفعل عن بعد” (Action at a Distance) وهل كان إسحاق نيوتن مرتاحاً له؟

مفهوم “الفعل عن بعد” هو الفكرة القائلة بأن جسماً يمكن أن يؤثر على جسم آخر عبر الفضاء الخالي دون وجود أي وسيط مادي بينهما. قانون الجاذبية الذي قدمه إسحاق نيوتن كان يصف هذا التأثير رياضياً، لكنه لم يفسر “كيف” تنتقل قوة الجاذبية. هذا الأمر كان مصدر إزعاج فلسفي كبير لنيوتن نفسه وللعديد من معاصريه. لقد اعتبر نيوتن أنه من غير المعقول أن تؤثر المادة على مادة أخرى دون أي اتصال. في رسالة إلى ريتشارد بنتلي، كتب نيوتن أن فكرة الجاذبية المتأصلة في المادة والتي تعمل عبر الفراغ “سخافة عظيمة”. ومع ذلك، وبسبب عدم امتلاكه دليلاً تجريبياً على وجود وسيط (مثل الأثير)، تبنى موقفاً عملياً، وعبّر عنه بعبارته الشهيرة “Hypotheses non fingo” (“أنا لا أصطنع الفرضيات”)، أي أنه يكتفي بوصف الظاهرة رياضياً دون التكهن بآليتها الأساسية. وقد ظل هذا اللغز قائماً حتى قدم أينشتاين تفسيراً من خلال انحناء الزمكان.

5. ما هي حقيقة الخلاف بين إسحاق نيوتن ولايبنتز حول اختراع التفاضل والتكامل؟

كان هذا واحداً من أشهر الخلافات الفكرية وأكثرها مرارة في تاريخ العلم. يتفق المؤرخون اليوم على أن كلاً من إسحاق نيوتن في إنجلترا وغوتفريد فيلهلم لايبنتز في ألمانيا قد طورا حساب التفاضل والتكامل بشكل مستقل وفي نفس الفترة تقريباً. بدأ نيوتن عمله أولاً في ستينيات القرن السابع عشر لكنه لم ينشره، بينما طور لايبنتز نسخته في سبعينيات القرن السابع عشر ونشرها أولاً في ثمانينياته. الخلاف اندلع حول من له الأسبقية. كان لكل منهما منهجه ورموزه الخاصة (رموز لايبنتز هي المستخدمة على نطاق واسع اليوم لمرونتها). تحول الخلاف إلى نزاع قومي مرير بين علماء بريطانيا والقارة الأوروبية، واتهم كل طرف الآخر بالسرقة الأدبية. كرئيس للجمعية الملكية، استخدم نيوتن نفوذه لضمان أن اللجنة التي شكلت للتحقيق في الأمر حكمت لصالحه، وهو حكم يعتبر الآن متحيزاً.

6. ما هي أهمية تجربة إسحاق نيوتن الحاسمة (Experimentum Crucis) في علم البصريات؟

كانت هذه التجربة دليلاً عبقرياً وبسيطاً على الطبيعة المركبة للضوء الأبيض. قبل نيوتن، كان الاعتقاد السائد أن المنشور الزجاجي “يلوّن” أو “يعدّل” الضوء الأبيض ليصنع الألوان. أجرى إسحاق نيوتن التجربة على مرحلتين: أولاً، سمح لشعاع من ضوء الشمس بالمرور عبر منشور لتحليله إلى طيف من الألوان. ثانياً، وهو الجزء الحاسم، وضع حاجزاً به ثقب صغير للسماح بمرور لون واحد فقط من هذا الطيف (على سبيل المثال، اللون الأحمر)، ثم وجه هذا الشعاع الأحمر المنعزل إلى منشور ثانٍ. كانت النتيجة أن المنشور الثاني حرف الشعاع الأحمر ولكنه لم يغير لونه أو يحلله أكثر. أثبتت هذه التجربة أن الألوان ليست تعديلاً للضوء الأبيض، بل هي مكوناته الأساسية والأصلية، وأن الضوء الأبيض هو في الواقع مزيج من كل هذه الألوان.

7. ما الذي يجعل قانون نيوتن الأول (قانون القصور الذاتي) ثورياً لهذه الدرجة؟

كان قانون القصور الذاتي ثورياً لأنه دحض بشكل مباشر الفيزياء الأرسطية التي هيمنت على الفكر الأوروبي لألفي عام. كانت فيزياء أرسطو تفترض أن الحالة الطبيعية للأجسام هي السكون، وأن أي حركة تتطلب قوة مستمرة للحفاظ عليها. قانون إسحاق نيوتن الأول قلب هذا المفهوم رأساً على عقب، حيث نص على أن الحركة المنتظمة في خط مستقيم هي حالة طبيعية تماماً مثل السكون. القوة ليست ضرورية للحفاظ على الحركة، بل لتغييرها (أي لإحداث تسارع). هذا التحول في التفكير كان ضرورياً لفهم حركة الكواكب؛ فهي لا تحتاج إلى “ملائكة” أو “محركات سماوية” لدفعها باستمرار، بل تستمر في حركتها بسبب قصورها الذاتي، بينما تقوم قوة الجاذبية بتغيير اتجاه حركتها باستمرار لتبقيها في مدار.

8. هل اقتصرت اهتمامات إسحاق نيوتن على الفيزياء والرياضيات؟

على الإطلاق. في الواقع، تشير كتاباته التي بقيت محفوظة إلى أنه قضى وقتاً أطول بكثير في دراسة الخيمياء (Alchemy) واللاهوت وتفسير الكتاب المقدس مقارنة بالوقت الذي قضاه في الفيزياء والرياضيات. لم تكن هذه الاهتمامات بالنسبة له منفصلة، بل كانت جزءاً من سعيه الموحد لفهم الكون الذي خلقه الله. كان يرى الخيمياء كطريقة لكشف الأسرار العميقة للمادة، بينما كانت دراساته اللاهوتية محاولة لفهم خطة الخالق. لقد كان شخصية معقدة للغاية، ورجلاً ينتمي إلى عصره، حيث لم تكن الحدود بين العلم والدين والفلسفة مرسومة بوضوح كما هي اليوم.

9. كيف يتم تطبيق قوانين إسحاق نيوتن في التكنولوجيا الحديثة؟

قوانين إسحاق نيوتن هي حجر الزاوية في معظم فروع الهندسة والتكنولوجيا. على سبيل المثال، يعتمد علم الميكانيكا المدارية (Orbital Mechanics) بالكامل على قوانين نيوتن للحركة والجاذبية لحساب مسارات الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية. في الهندسة المدنية، تُستخدم هذه القوانين لتحليل القوى في الهياكل مثل الجسور والمباني لضمان استقرارها. في هندسة السيارات، تُستخدم لتصميم أنظمة التعليق، والمكابح، وتحليل ديناميكيات الاصطدام. حتى محركات الفيزياء في ألعاب الفيديو والرسوم المتحركة الحاسوبية تعتمد على محاكاة قوانين نيوتن لإنشاء حركات واقعية للأجسام. باختصار، أي تقنية تتعامل مع حركة الأجسام في العالم المادي تعتمد بشكل أساسي على المبادئ التي وضعها إسحاق نيوتن.

10. ما هو ثابت الجاذبية الكونية (G) ولماذا لم يقم إسحاق نيوتن بحسابه؟

ثابت الجاذبية الكونية (G) هو ثابت التناسب في قانون الجاذبية الكونية، وهو يحدد قوة الجذب بين كتلتين على مسافة معينة. إنه ثابت أساسي في الطبيعة. على الرغم من أن إسحاق نيوتن صاغ القانون الذي يحتوي على G، إلا أنه لم يتمكن من حساب قيمته. السبب هو أن قوة الجاذبية ضعيفة للغاية ولا يمكن قياسها إلا إذا كانت إحدى الكتلتين على الأقل هائلة جداً (مثل كوكب). لم تكن هناك تقنية في عصر نيوتن لقياس قوة الجذب الضعيفة بين جسمين عاديين في المختبر. لم يتم قياس قيمة G بدقة إلا بعد مرور أكثر من 70 عاماً على وفاته، وذلك في عام 1798 على يد هنري كافنديش باستخدام جهاز حساس يُعرف بـ “ميزان الالتواء”، في تجربة شهيرة أطلق عليها “وزن الأرض”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى