التراث غير المادي: تعريف وأهمية وصون الكنوز الحية للإنسانية
دليل شامل لفهم الموروثات الشفهية والفنون الأدائية والممارسات الاجتماعية التي تشكل هويتنا الجماعية

إن التراث لا يقتصر فقط على المعالم الأثرية والمجموعات المادية، بل يشمل أيضاً التقاليد الحية التي ورثناها عن أسلافنا. هذا المفهوم الواسع يفتح الباب أمام فهم أعمق لما يعنيه أن تكون جزءاً من ثقافة حية ومستمرة.
مقدمة: ما هو التراث غير المادي؟
عندما نفكر في كلمة “تراث”، غالباً ما تتبادر إلى أذهاننا صور القلاع الشامخة، والمتاحف المليئة بالتحف، والمواقع الأثرية القديمة. لكن هناك وجهاً آخر للتراث، وجه حي يتنفس في ممارساتنا اليومية، إنه التراث غير المادي (Intangible Cultural Heritage). يمثل هذا المفهوم الجانب الحي من ثقافتنا، فهو ليس شيئاً يمكن لمسه أو تخزينه في صندوق زجاجي، بل هو المعارف والمهارات والممارسات والتقاليد والتعابير الشفهية والفنون الأدائية التي تنتقل من جيل إلى آخر، وتمنح المجتمعات إحساساً بالهوية والاستمرارية. إن فهم جوهر التراث غير المادي يعد خطوة أساسية نحو تقدير ثراء الثقافات الإنسانية وتنوعها.
إن هذا النوع من الإرث الثقافي يتجسد في كل شيء بدءاً من حكايات الجدات، مروراً بوصفات الطهي التقليدية، وصولاً إلى المهرجانات الموسمية والطقوس الاجتماعية. تُعرّف اتفاقية اليونسكو لعام 2003 التراث غير المادي بأنه “الممارسات والتمثيلات والتعابير والمعارف والمهارات – وما يرتبط بها من أدوات وأشياء ومصنوعات وأماكن ثقافية – التي تعترف بها المجتمعات والجماعات، وفي بعض الحالات الأفراد، كجزء من تراثهم الثقافي”. هذا التعريف يؤكد على أن المجتمعات المحلية نفسها هي التي تحدد وتصون وتعرف ما يشكل تراثها، مما يجعله مفهوماً ديناميكياً ومتجدداً باستمرار. إن الاعتراف بقيمة التراث غير المادي هو اعتراف بحكمة الأجداد وإبداع الأجيال الحاضرة.
أهمية التراث غير المادي في بناء هوية المجتمعات
يلعب التراث غير المادي دوراً محورياً في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمعات وتعزيز التماسك الاجتماعي. إنه بمثابة الذاكرة الحية للشعوب، حيث يحمل في طياته القيم والمعتقدات والنظرة إلى العالم التي تميز مجموعة بشرية عن أخرى. من خلال الممارسات المشتركة مثل الاحتفالات الدينية، أو فنون الأداء التقليدية، أو حتى اللهجات المحلية، يشعر الأفراد بالانتماء إلى كيان أكبر، مما يقوي الروابط الاجتماعية بينهم. يوفر التراث غير المادي إطاراً مرجعياً مشتركاً يسمح للأجيال بالتواصل وفهم جذورها، وهو ما يساهم في بناء مستقبل يستند إلى أساس ثقافي متين.
علاوة على ذلك، فإن التراث غير المادي ليس مجرد بقايا من الماضي، بل هو مورد حيوي للتنمية والابتكار. فالمهارات الحرفية التقليدية يمكن أن تكون أساساً لصناعات إبداعية مستدامة، والمعارف المتعلقة بالطب الشعبي أو الزراعة التقليدية قد تحمل حلولاً لتحديات معاصرة مثل الأمن الغذائي أو الرعاية الصحية. إن الحفاظ على التراث غير المادي لا يعني تجميده في شكل ثابت، بل يعني ضمان استمراريته وتكيّفه مع متغيرات العصر. وبذلك، يصبح هذا التراث مصدراً للإلهام والإبداع، ويساهم في تعزيز التنوع الثقافي الذي يعد ضرورياً لازدهار البشرية جمعاء.
تصنيفات اليونسكو الرئيسية للتراث غير المادي
لأجل تنظيم الجهود الدولية وتسهيل فهم النطاق الواسع لهذا الإرث الحي، قامت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (UNESCO) بتحديد خمسة مجالات رئيسية يندرج تحتها التراث غير المادي. هذه التصنيفات ليست جامدة، وغالباً ما تتداخل عناصر التراث الواحد في أكثر من مجال، ولكنها توفر إطاراً عملياً للتعرف على مختلف أشكال هذا التراث وحمايته. هذه المجالات هي:
- التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة لنقل التراث غير المادي: يشمل هذا المجال الأشكال الهائلة من التقاليد الشفوية مثل الحكايات الشعبية، والأساطير، والأمثال، والأشعار الملحمية، والأغاني. اللغة نفسها تعد الحامل الرئيسي لمعظم أشكال التراث غير المادي، وفقدان لغة ما يعني غالباً فقدان جزء كبير من المعارف والتعابير المرتبطة بها.
- فنون الأداء: يغطي هذا المجال مجموعة واسعة من أشكال التعبير الفني التي يتم أداؤها أمام جمهور. يتضمن ذلك الموسيقى التقليدية، والرقص، والمسرح، والغناء، والشعر المرتجل. هذه الفنون لا تقتصر على المنتج النهائي، بل تشمل أيضاً المهارات والمعارف اللازمة لأدائها، والأدوات الموسيقية، والأزياء، والمساحات التي تُقام فيها العروض. إن جوهر هذا النوع من التراث غير المادي يكمن في الأداء الحي نفسه.
- الممارسات الاجتماعية والطقوس والمناسبات الاحتفالية: يشمل هذا المجال العادات التي تنظم حياة المجتمعات وتحدد مراحلها الهامة. من طقوس العبور (مثل حفلات الميلاد والزواج والجنازات) إلى الاحتفالات الموسمية والمهرجانات الدينية، تعمل هذه الممارسات على تعزيز الروابط الاجتماعية وتجديد الشعور بالانتماء والهوية الجماعية.
- المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون: يتضمن هذا المجال النظم المعرفية التي طورتها المجتمعات عبر الأجيال لفهم بيئتها والتفاعل معها. يشمل ذلك الطب التقليدي، والمعارف الفلكية، والتقنيات الزراعية المستدامة، وطرق التنبؤ بالطقس، والمعتقدات المرتبطة بالأماكن الطبيعية المقدسة. هذا المجال يوضح كيف أن التراث غير المادي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنمية المستدامة.
- المهارات المرتبطة بالحرف التقليدية: يركز هذا المجال على المعارف والمهارات اللازمة لإنتاج المصنوعات اليدوية التقليدية. لا تقتصر الأهمية هنا على المنتج النهائي (مثل سجادة أو قطعة فخار)، بل على العملية الإبداعية المعقدة والمهارات اليدوية التي تنتقل من معلم إلى متدرب، والتي تمثل خلاصة خبرات أجيال. الحفاظ على هذه المهارات هو جوهر الحفاظ على هذا الجانب من التراث غير المادي.
الفرق الجوهري بين التراث المادي وغير المادي
يعد التمييز بين التراث المادي (Tangible Heritage) وغير المادي أمراً أساسياً لفهم الطبيعة الشاملة للإرث الثقافي. التراث المادي، كما يوحي اسمه، هو كل ما هو ملموس ومادي: المباني التاريخية، المواقع الأثرية، القطع الفنية، المخطوطات، والتحف الموجودة في المتاحف. يمكن قياسه وحفظه فيزيائياً. أما التراث غير المادي، فهو على النقيض من ذلك، يتسم بطبيعته الزائلة والمتجددة؛ إنه موجود في عقول الناس وأجسادهم، ويُعاد خلقه باستمرار في كل مرة يتم فيها أداؤه أو ممارسته.
يكمن الفرق الجوهري في أن قيمة التراث المادي تكمن في الغالب في القطعة الأثرية نفسها، بينما قيمة التراث غير المادي تكمن في المعرفة والمهارة والممارسة التي تنتقل عبر الأجيال. على سبيل المثال، آلة موسيقية قديمة في متحف هي تراث مادي، لكن المعرفة بكيفية صنع هذه الآلة والمهارة في عزف ألحان تقليدية عليها هي تراث غير مادي. وبالمثل، فإن وصفة طعام مكتوبة في كتاب قديم هي تراث مادي، لكن المعرفة العملية التي تمتلكها الجدة في تحضير طبق تقليدي، مع كل الأسرار والنكهات التي لا يمكن تدوينها، هي جوهر التراث غير المادي.
التحديات التي تواجه صون التراث غير المادي
على الرغم من أهميته الحيوية، يواجه التراث غير المادي مجموعة من التحديات الجسيمة التي تهدد بقاءه واستمراريته في العالم المعاصر. طبيعته الحية والهشة تجعله عرضة للاندثار بسرعة إذا لم تُبذل جهود حثيثة لصونه. هذه التحديات متعددة الأوجه وتتطلب حلولاً شاملة ومشاركة مجتمعية واسعة. من أبرز هذه التحديات:
- العولمة والتوحيد الثقافي: يؤدي الانتشار السريع للثقافة الاستهلاكية العالمية ووسائل الإعلام المهيمنة إلى تهميش أشكال التعبير الثقافي المحلي. قد يفضل الشباب الأشكال الثقافية الوافدة على حساب تقاليدهم، مما يؤدي إلى انقطاع سلسلة النقل بين الأجيال، وهو ما يمثل خطراً داهماً على التراث غير المادي.
- التغيرات الاجتماعية والاقتصادية: الهجرة من الريف إلى المدن، وتغير أنماط الحياة، والتحولات الاقتصادية يمكن أن تفكك البنى الاجتماعية التي كانت تدعم ممارسة التراث غير المادي. على سبيل المثال، عندما يهجر الحرفيون مهنهم التقليدية بحثاً عن وظائف أكثر ربحية، فإن المهارات المرتبطة بهذه الحرف تصبح مهددة بالزوال.
- نقص التوثيق والبحث: العديد من أشكال التراث غير المادي، وخصوصى التقاليد الشفوية، لا توجد في سجلات مكتوبة. إذا توفي كبار السن الذين يحملون هذه المعارف دون نقلها أو توثيقها، فإنها تُفقد إلى الأبد. يتطلب التوثيق جهوداً منهجية تتجاوز مجرد التسجيل إلى فهم السياق الاجتماعي والثقافي للممارسة.
- التسليع المفرط والتحريف: في محاولة لاستغلال التراث غير المادي سياحياً أو تجارياً، قد يتم إخراجه من سياقه الأصلي، وتبسيطه أو تحريفه ليلائم أذواق السياح. هذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان معناه الحقيقي وأهميته الروحية أو الاجتماعية بالنسبة للمجتمع المحلي.
- غياب السياسات الداعمة والوعي: في كثير من الأحيان، لا يحظى التراث غير المادي بالاهتمام الكافي من قبل الحكومات وصناع السياسات مقارنة بالتراث المادي. هذا يؤدي إلى نقص التمويل، وغياب الأطر القانونية لحمايته، وضعف الوعي العام بأهميته.
دور المجتمعات المحلية في حماية التراث غير المادي
تُعتبر المجتمعات المحلية هي حجر الزاوية في أي جهد يهدف إلى حماية التراث غير المادي. فهم ليسوا مجرد متلقين سلبيين للتراث، بل هم المبدعون والحاملون والفاعلون الرئيسيون في استمراريته. إن أي إستراتيجية لصون هذا التراث تكون محكومة بالفشل إذا لم تنبع من رغبة المجتمع نفسه وإذا لم يشارك أفراده في كل مراحلها، من تحديد عناصر التراث ذات الأولوية إلى تنفيذ خطط الحماية. إن التراث غير المادي يعيش ويزدهر داخل المجتمعات، ومن هنا تبدأ حمايته.
إن تمكين المجتمعات المحلية يتخذ أشكالاً عدة، منها دعم الحرفيين وحملة المعرفة (الكنوز البشرية الحية)، وتوفير مساحات لهم لممارسة تقاليدهم ونقلها للأجيال الشابة. كما يشمل تشجيع إنشاء الجمعيات المحلية التي تُعنى بتوثيق وتنظيم الفعاليات المتعلقة بتراثها. إن الاعتراف بدورهم المركزي يعني احترام حقهم في إدارة تراثهم الثقافي الخاص، مما يضمن أن تظل ممارسات التراث غير المادي ذات معنى وصلة بحياتهم اليومية، بدلاً من أن تتحول إلى مجرد عروض فولكلورية للسياح.
الإستراتيجيات الدولية والوطنية لصون التراث غير المادي
على المستوى الدولي، تمثل اتفاقية اليونسكو لصون التراث غير المادي لعام 2003 الإطار القانوني والعملي الأهم. تهدف هذه الاتفاقية إلى حماية هذا التراث، وضمان احترام تراث المجتمعات المعنية، وإذكاء الوعي على الصعيدين المحلي والوطني والدولي بأهميته. من خلال قوائمها الشهيرة، مثل القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية وقائمة الصون العاجل، تسلط اليونسكو الضوء على عناصر تراثية بارزة وتوفر الدعم للدول لحمايتها. إن التزام الدول بهذه الاتفاقية يشكل خطوة مهمة نحو الاعتراف الرسمي بأهمية هذا الإرث الحي.
على الصعيد الوطني، يتوجب على الحكومات تطوير إستراتيجيات متكاملة تترجم الالتزامات الدولية إلى إجراءات عملية. يشمل ذلك إنشاء سجلات وطنية لعناصر التراث غير المادي، وتخصيص الميزانيات اللازمة لدعم مشاريع الصون، ودمج مفاهيم التراث في المناهج التعليمية. كما يجب سن تشريعات تحمي حقوق الملكية الفكرية للمجتمعات المحلية فيما يتعلق بمعارفها التقليدية. إن التعاون بين المؤسسات الحكومية، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الأكاديمية، والمجتمعات المحلية هو مفتاح النجاح في صياغة وتنفيذ سياسات فعالة للحفاظ على التراث غير المادي.
التراث غير المادي في العصر الرقمي: فرص وتحديات
لقد فتح العصر الرقمي آفاقاً جديدة وغير مسبوقة لصون ونشر التراث غير المادي. توفر التكنولوجيا الرقمية أدوات قوية للتوثيق، مثل التسجيلات الصوتية والمرئية عالية الجودة، والنمذجة ثلاثية الأبعاد للحرف التقليدية، وإنشاء الأرشيفات الرقمية التي يمكن الوصول إليها بسهولة من أي مكان في العالم. هذه الأدوات لا تساعد فقط في الحفاظ على سجل دائم للممارسات المهددة بالزوال، بل تتيح أيضاً فرصاً مبتكرة لنقل المعرفة، مثل الدورات التعليمية عبر الإنترنت لتعليم الحرف أو اللغات التقليدية. إن العالم الرقمي يمكن أن يكون حليفاً قوياً في مهمة حماية التراث غير المادي.
لكن مع هذه الفرص تأتي تحديات جديدة. فالتحول الرقمي قد يؤدي إلى فصل الممارسة التراثية عن سياقها الاجتماعي والحي، وتحويلها إلى مجرد محتوى رقمي مستهلك. هناك أيضاً خطر الاستغلال التجاري غير المشروع للمحتوى الرقمي المتعلق بالتراث غير المادي، مما يثير قضايا معقدة حول حقوق الملكية الفكرية. لذا، يجب أن يتم استخدام التكنولوجيا الرقمية بحكمة، مع ضمان أن تظل المجتمعات المحلية هي المتحكمة في روايتها وتراثها، وأن تخدم التكنولوجيا هدف الصون الحقيقي بدلاً من أن تصبح غاية في حد ذاتها.
أمثلة عالمية وعربية بارزة للتراث غير المادي
لفهم أعمق لمفهوم التراث غير المادي، من المفيد استعراض بعض الأمثلة الملموسة التي تم الاعتراف بها على المستوى الدولي من قبل اليونسكو. هذه الأمثلة تظهر التنوع الهائل والغنى الكبير لهذا التراث في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك المنطقة العربية. كل مثال منها يمثل نظاماً متكاملاً من المعارف والمهارات والقيم الاجتماعية.
- القهوة العربية، رمز الكرم (شبه الجزيرة العربية): أكثر من مجرد مشروب، تمثل القهوة العربية تقليداً اجتماعياً معقداً يرمز إلى الكرم وحسن الضيافة. يشمل هذا العنصر من التراث غير المادي زراعة البن، وتحميصه، وطحنه، وتحضيره في دلال خاصة، وتقديمه للضيوف وفق طقوس صارمة تبدأ من الأكبر سناً أو الأعلى مكانة. إنها ممارسة تعزز الروابط الاجتماعية وتحمل قيماً ثقافية عميقة.
- فن الخط العربي (العالم العربي والإسلامي): هو فن كتابة الحروف العربية بأساليب جمالية متقنة. لا يقتصر هذا الفن على الجانب الجمالي، بل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالهوية الثقافية والدينية. يتم نقل مهارات الخط من الخطاط “المعلم” إلى “المتعلم” عبر تدريب طويل وصارم، وهو ما يجسد جوهر انتقال التراث غير المادي.
- صناعة السدو (الكويت والمملكة العربية السعودية): هو فن النسيج التقليدي الذي تمارسه النساء البدويات لإنتاج المنسوجات المزخرفة ذات الأشكال الهندسية المميزة. هذه المهارة لا توفر فقط احتياجات عملية (مثل الخيام والمفروشات)، بل تحمل أيضاً تعابير فنية ورموزاً اجتماعية تعكس بيئة الصحراء وقيم المجتمع. إن بقاء السدو يعتمد على استمرار نقل هذه المهارة اليدوية المعقدة.
- التانغو (الأرجنتين والأوروغواي): مثال عالمي يجمع بين الموسيقى والرقص والشعر. نشأ التانغو في الأحياء الفقيرة على ضفاف نهر لا بلاتا، وهو يعبر عن مزيج من ثقافات المهاجرين الأوروبيين والسكان المحليين. إنه ليس مجرد رقصة، بل لغة جسدية عاطفية وهوية ثقافية قوية، وهو ما يجعله نموذجاً مثالياً لعنصر التراث غير المادي الذي يشمل فنون الأداء والممارسات الاجتماعية.
- يوغا (الهند): نظام قديم يجمع بين الممارسات الجسدية والعقلية والروحية. على الرغم من انتشاره العالمي، إلا أن جذوره تكمن في الفلسفة الهندية القديمة. إن اليوغا كتراث غير مادي لا تقتصر على التمارين البدنية، بل تشمل المعرفة الفلسفية وتقنيات التأمل التي تهدف إلى تحقيق الانسجام بين الجسد والعقل، والتي تنتقل عبر سلسلة من المعلمين والتلاميذ.
دور التعليم والإعلام في تعزيز الوعي بالتراث غير المادي
يلعب كل من التعليم والإعلام دوراً حاسماً في تعزيز الوعي العام بأهمية التراث غير المادي وضمان نقله إلى الأجيال القادمة. يمكن للمؤسسات التعليمية، من المدارس الابتدائية إلى الجامعات، أن تدمج دراسة التراث المحلي في مناهجها. هذا لا يقتصر على الدروس النظرية، بل يمكن أن يشمل ورش عمل تفاعلية مع الحرفيين المحليين، أو زيارات ميدانية للمناسبات الاحتفالية، أو مشاريع لتوثيق تاريخ العائلات الشفهي. عندما يتعلم الأطفال تقدير تراثهم منذ الصغر، يصبحون أكثر ميلاً لحمايته والمشاركة فيه عندما يكبرون. إن التعليم هو الأداة الأقوى لزرع بذور الاعتزاز بالهوية الثقافية التي يمثلها التراث غير المادي.
من ناحية أخرى، تمتلك وسائل الإعلام، التقليدية والجديدة، قدرة هائلة على الوصول إلى جمهور واسع وتشكيل الرأي العام. يمكن للبرامج الوثائقية، والمسلسلات الإذاعية، والمقالات الصحفية، والمحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي أن تسلط الضوء على كنوز التراث غير المادي المنسية أو المهددة بالاندثار. يمكن للإعلام أن يروي قصص “الكنوز البشرية الحية” – كبار السن والحرفيين الذين يحملون معارف نادرة – ويبرز أهمية دورهم. إن إستراتيجية إعلامية مدروسة لا تكتفي بالعرض، بل تشجع على الحوار والنقاش حول كيفية صون هذا الإرث الثمين، مما يساهم في خلق حركة مجتمعية داعمة للحفاظ على التراث غير المادي.
العلاقة بين التراث غير المادي والتنمية المستدامة
توجد علاقة وثيقة ومتبادلة بين صون التراث غير المادي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. فالتراث ليس مجرد عنصر ثقافي منعزل، بل هو محرك أساسي للتنمية الشاملة التي توازن بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. على سبيل المثال، يمكن للمهارات الحرفية التقليدية أن تدعم الاقتصادات المحلية وتوفر فرص عمل لائقة، خاصة للنساء والشباب في المناطق الريفية، مما يساهم في الحد من الفقر. إن السياحة الثقافية المسؤولة التي تركز على التراث غير المادي يمكن أن تولد دخلاً للمجتمعات مع ضمان احترام أصالة ممارساتها الثقافية.
على الصعيد البيئي، يحمل الكثير من عناصر التراث غير المادي، وخصيصى المعارف المتعلقة بالطبيعة والكون، حكمة بيئية عميقة. فالتقنيات الزراعية التقليدية، وأساليب إدارة الموارد المائية، والمعارف المتعلقة بالتنوع البيولوجي، كلها تقدم حلولاً مجربة ومستدامة للتحديات البيئية المعاصرة. إن الحفاظ على هذا النوع من التراث غير المادي هو في جوهره حفاظ على المعرفة اللازمة للعيش في وئام مع الطبيعة. وبهذا، يصبح صون التراث غير المادي جزءاً لا يتجزأ من الإستراتيجيات العالمية لتحقيق مستقبل أكثر استدامة وعدالة.
خاتمة: مستقبل التراث غير المادي و مسؤوليتنا الجماعية
في نهاية المطاف، يمثل التراث غير المادي جوهر إنسانيتنا المشتركة وتعبيرها الأكثر حيوية وتنوعاً. إنه ليس مجرد مجموعة من التقاليد القديمة، بل هو نسيج حي يربط ماضينا بحاضرنا ويرسم ملامح مستقبلنا. إن الحفاظ عليه ليس مسؤولية الحكومات أو المنظمات الدولية وحدها، بل هي مسؤولية جماعية تقع على عاتق كل فرد في المجتمع. من خلال المشاركة في تقاليدنا، والاستماع إلى قصص كبارنا، وتعليم أطفالنا قيمة تراثهم، نساهم جميعاً في إبقاء شعلة هذا الإرث متقدة.
إن مستقبل التراث غير المادي يعتمد على قدرتنا على التكيف والابتكار مع الحفاظ على الأصالة والجوهر. يجب أن نجد طرقاً لجعل هذا التراث ذا صلة بحياة الأجيال الشابة، وأن نستخدم التكنولوجيا لخدمة أهداف الصون، وأن نبني جسوراً من التفاهم والاحترام بين الثقافات المختلفة. إن الاستثمار في حماية التراث غير المادي هو استثمار في الهوية، وفي التماسك الاجتماعي، وفي مستقبل أكثر ثراءً وإبداعاً للبشرية جمعاء.
الأسئلة الشائعة
1. ما هو التعريف الدقيق للتراث غير المادي؟
هو الممارسات والتمثيلات والتعابير والمعارف والمهارات التي تعترف بها المجتمعات كجزء من تراثها الثقافي. وهو تراث حي يُعاد خلقه باستمرار وينتقل من جيل إلى آخر، ويمنح شعوراً بالهوية والاستمرارية.
2. ما الفرق الأساسي بين التراث المادي وغير المادي؟
التراث المادي ملموس مثل المباني والتحف الأثرية. أما التراث غير المادي فهو حي وغير ملموس، ويكمن في المعارف والمهارات والممارسات، مثل الموسيقى التقليدية، أو أساليب الطهي، أو الحرف اليدوية.
3. من الذي يحدد ما يعتبر تراثاً ثقافياً غير مادي؟
المجتمعات والجماعات المحلية نفسها هي التي تحدد وتعترف بعناصر تراثها الثقافي غير المادي. هذا الدور المركزي للمجتمع هو مبدأ أساسي في اتفاقية اليونسكو لعام 2003.
4. لماذا يعد صون هذا التراث أمراً ضرورياً؟
صونه ضروري لأنه يحافظ على الهوية الثقافية والتنوع الإنساني، ويعزز التماسك الاجتماعي. كما أنه يمثل مصدراً للمعرفة والإبداع ويساهم في تحقيق التنمية المستدامة.
5. هل يمكن اعتبار ممارسة حديثة جزءاً من التراث غير المادي؟
نعم، فالتراث غير المادي ليس جامداً. يمكن لممارسات حديثة أن تصبح جزءاً منه إذا تبنتها جماعة ما واعتبرتها جزءاً من هويتها الثقافية ونقلتها عبر الأجيال.
6. كيف تساهم اليونسكو في حماية هذا التراث؟
تساهم اليونسكو من خلال اتفاقية 2003 التي توفر إطاراً دولياً للصون، وتقوم بإدراج عناصر التراث على قوائمها التمثيلية وقوائم الصون العاجل لزيادة الوعي وتقديم الدعم.
7. ما هي أكبر التهديدات التي تواجهه؟
أكبر التهديدات تشمل العولمة التي قد تؤدي إلى التوحيد الثقافي، والتغيرات الاجتماعية السريعة، وانقطاع سلسلة النقل بين الأجيال، بالإضافة إلى التسليع المفرط الذي يفرغه من معناه.
8. هل اللغة بحد ذاتها تعتبر تراثاً غير مادي؟
نعم، تعتبر اللغة وعاءً وحاملاً أساسياً للتراث غير المادي. تندرج التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما فيها اللغة، كأحد المجالات الرئيسية الخمسة التي حددتها اليونسكو.
9. ما المقصود بمصطلح “الكنوز البشرية الحية”؟
هم الأفراد الذين يمتلكون بدرجة عالية المهارات والمعارف اللازمة لأداء أو إعادة إبداع جوانب محددة من التراث غير المادي. يُعتبرون حماة وحملة هذا التراث.
10. كيف يمكن للأفراد المساهمة في الحفاظ على تراثهم؟
يمكن للأفراد المساهمة عبر المشاركة الفعالة في الممارسات الثقافية، وتعلم المهارات التقليدية من كبار السن، وتوثيق التاريخ الشفهي لعائلاتهم، ونقل هذه المعارف إلى الأجيال الشابة.