فالق البحر الميت: التكتونية، التاريخ الزلزالي، والمعالم الجيومورفولوجية

مقدمة في الأهمية الجيولوجية لنظام فالق البحر الميت
يُعد فالق البحر الميت (Dead Sea Fault – DSF)، والذي يُعرف أيضاً بنظام صدع البحر الميت التحويلي (Dead Sea Transform Fault System – DST)، أحد أبرز وأنشط التراكيب الجيولوجية في منطقة الشرق الأوسط. يمثل هذا الصدع حدوداً تكتونية فاصلة بين الصفيحة العربية شرقاً والصفيحة الإفريقية (وتحديداً صفيحتها الفرعية، صفيحة سيناء) غرباً. يمتد هذا النظام الصدعي الهائل لمسافة تتجاوز 1100 كيلومتر، بدءاً من تقاطع صدع البحر الأحمر في خليج العقبة جنوباً، وصولاً إلى منطقة التصادم المعقدة مع صدع شرق الأناضول في جنوب تركيا شمالاً. إن دراسة فالق البحر الميت لا تقتصر على أهميتها في فهم ديناميكيات الصفائح التكتونية فحسب، بل تمتد لتشمل تأثيراته العميقة على جغرافية المنطقة، وتوزيع مواردها المائية، وتاريخها الزلزالي الطويل، والمخاطر المستقبلية التي يفرضها على المراكز السكانية الكبرى الممتدة على طوله. لقد لعب فالق البحر الميت دوراً محورياً في تشكيل تضاريس المنطقة، بما في ذلك وادي الأردن، ووادي عربة، وسلسلة جبال لبنان الشرقية والغربية، وبالطبع، أعمق نقطة على سطح اليابسة، حوض البحر الميت نفسه. لذلك، فإن فهم الآليات التي تحكم فالق البحر الميت يُعتبر مفتاحاً لتقييم المخاطر الزلزالية وتفسير التاريخ الجيولوجي والبيئي لواحدة من أكثر المناطق أهمية تاريخياً وحضارياً في العالم.
السياق التكتوني وآلية الحركة لفالق البحر الميت
لفهم طبيعة فالق البحر الميت، لا بد من وضعه في سياقه التكتوني الأوسع. ينشأ هذا النظام الصدعي نتيجة للحركة النسبية بين صفيحتين تكتونيتين رئيسيتين. تتحرك الصفيحة العربية باتجاه الشمال بسرعة أكبر نسبياً من حركة الصفيحة الإفريقية، مما يؤدي إلى إجهاد قصي هائل على طول الحدود الفاصلة بينهما. تقدر سرعة الحركة النسبية بحوالي 4-5 ملليمترات سنوياً، وهي حركة انزلاقية جانبية ذات طبيعة يسارية (Left-Lateral Strike-Slip). هذا يعني أنه إذا وقفت على أحد جانبي الصدع ونظرت إلى الجانب الآخر، فستجده يتحرك نحو اليسار. هذه الحركة هي المحرك الأساسي للنشاط الزلزالي الذي يميز فالق البحر الميت.
لكن الآلية ليست مجرد انزلاق أفقي بسيط. يظهر مسار فالق البحر الميت انحناءات وتعرجات طفيفة على طول امتداده. عندما ينحني مسار الصدع إلى اليسار (بزاوية تقييدية)، يؤدي ذلك إلى ضغط تكتوني وتكوين تراكيب انضغاطية مثل الجبال المحدبة (Pressure Ridges) وسلاسل جبلية، كما هو الحال في جبال لبنان. وعلى النقيض، عندما ينحني مسار الصدع إلى اليمين (بزاوية تمددية)، يؤدي ذلك إلى تباعد موضعي وتكوين ما يُعرف بالأحواض الانفتاحية (Pull-Apart Basins). هذه الأحواض هي منخفضات عميقة تتشكل نتيجة لتمدد القشرة الأرضية في هذه المناطق. يُعتبر حوض البحر الميت نفسه المثال الأبرز والأكثر دراماتيكية على هذه الظاهرة، حيث يمثل منخفضاً تكتونياً عميقاً ناتجاً عن هذه الآلية التمددية على طول فالق البحر الميت. وتشمل الأحواض الأخرى حوض بحيرة طبريا (بحر الجليل) وسهل الغاب في سوريا. إن هذا التفاعل بين الحركة الانزلاقية والحركة التمددية أو الانضغاطية الموضعية يجعل من فالق البحر الميت نظاماً تحويلياً معقداً (Transtensional/Transpressional system).
الامتداد الجغرافي وتقسيمات فالق البحر الميت
يمكن تقسيم المسار الطويل لنظام فالق البحر الميت إلى عدة قطاعات رئيسية، لكل منها خصائصه الجيولوجية والزلزالية المميزة. يبدأ النظام من أقصى الجنوب في خليج العقبة، حيث يتصل بنظام صدع البحر الأحمر المتوسع.
- القطاع الجنوبي (صدع وادي عربة): يمتد هذا الجزء من خليج العقبة شمالاً عبر وادي عربة حتى الطرف الجنوبي للبحر الميت. يتميز هذا القطاع بكونه مستقيماً نسبياً، وتتركز فيه الحركة الانزلاقية اليسارية بشكل أساسي. يُظهر هذا الجزء من فالق البحر الميت أدلة واضحة على الإزاحة الأفقية التراكمية، والتي تقدر بحوالي 107 كيلومترات منذ بداية نشاط الصدع في عصر الميوسين (قبل حوالي 18-20 مليون سنة).
- القطاع المركزي (أحواض البحر الميت ووادي الأردن): يبدأ هذا القطاع من حوض البحر الميت ويمتد شمالاً عبر وادي الأردن. هذا الجزء هو الأكثر تعقيداً من الناحية التركيبية، حيث يتكون من سلسلة من الأحواض الانفتاحية العميقة التي تفصلها مناطق مرتفعة. يعتبر حوض البحر الميت نفسه هو الأعمق والأكثر نشاطاً تكتونياً. يستمر فالق البحر الميت في هذا القطاع عبر وادي الأردن، مشكلاً الحدود الطبيعية بين الأردن وفلسطين. إن وجود هذه الأحواض يشير إلى أن المكون التمددي للحركة التكتونية هو السائد في هذا الجزء من فالق البحر الميت.
- القطاع الشمالي (صدع اليمونة وصدع الغاب): شمال بحيرة طبريا، يصبح مسار فالق البحر الميت أكثر تعقيداً. ينقسم الصدع الرئيسي إلى عدة فروع. الفرع الأبرز هو صدع اليمونة (Yammouneh Fault) الذي يمر عبر سهل البقاع في لبنان، وهو المسؤول عن الفصل بين سلسلة جبال لبنان الشرقية والغربية. هذا الجزء من الصدع يظهر طبيعة انضغاطية (Transpressional) واضحة، مما أدى إلى الرفع التكتوني الكبير الذي شكل هذه السلاسل الجبلية الشاهقة. شمالاً، يستمر فالق البحر الميت عبر سوريا تحت اسم صدع الغاب (Ghab Fault)، والذي شكل منخفض الغاب، قبل أن يلتقي أخيراً بنظام صدع شرق الأناضول. إن هذا التنوع في الخصائص على طول فالق البحر الميت يجعله مختبراً طبيعياً فريداً لدراسة مختلف مظاهر التكتونيات التحويلية.
النشاط الزلزالي والتاريخ السيزمي لفالق البحر الميت
يُصنف فالق البحر الميت على أنه فالق نشط زلزالياً، وهو المصدر الرئيسي للزلازل في منطقة بلاد الشام. يمتلك هذا الصدع تاريخاً طويلاً وموثقاً من الزلازل المدمرة التي أثرت على الحضارات المتعاقبة في المنطقة. يمكن فهم النشاط الزلزالي المرتبط بـفالق البحر الميت من خلال منظورين: الزلازل التاريخية والنشاط الزلزالي الحديث.
الزلازل التاريخية: السجلات التاريخية والأدلة الأثرية والجيولوجية (علم الزلازل القديمة – Paleoseismology) تشير إلى أن فالق البحر الميت قد شهد العديد من الزلازل الكبرى (بقوة تتجاوز 7 درجات على مقياس ريختر) على مر القرون. من أشهر هذه الزلازل:
- زلزال عام 363 م: ضرب منطقة وادي الأردن وألحق دماراً واسعاً بمدينة البتراء والعديد من المدن الأخرى.
- زلزال عام 749 م: يُعرف بـ”زلزال شميتا”، وقد دمر مدناً رئيسية مثل طبريا، بيسان، جرش، وفيلادلفيا (عمان القديمة)، ويعتبر من أكبر الأحداث الزلزالية الموثقة على فالق البحر الميت.
- زلزال عام 1202 م: كان مركزه في القطاع الشمالي من فالق البحر الميت، وأثر على مناطق واسعة من سوريا ولبنان، وتسبب في دمار هائل وعدد كبير من الضحايا.
- زلزال عام 1837 م: ضرب منطقة الجليل وأدى إلى دمار كبير في صفد وطبريا.
تُظهر دراسة هذه الزلازل أن قطاعات مختلفة من فالق البحر الميت تنشط في أوقات مختلفة، وأن فترة العودة (Recurrence Interval) للزلازل الكبرى على أي قطاع معين تقدر ببضع مئات إلى آلاف السنين.
النشاط الزلزالي الحديث: في العصر الحديث، يبدو فالق البحر الميت هادئاً نسبياً فيما يتعلق بالزلازل الكبرى. آخر زلزال كبير وقع على الجزء الجنوبي كان في عام 1927 (زلزال أريحا، بقوة 6.2 درجة)، والذي تسبب في أضرار كبيرة في القدس ونابلس وأريحا والسلط. ومع ذلك، فإن هذا الهدوء النسبي لا يعني أن الخطر قد زال. يرى العديد من علماء الزلازل أن بعض قطاعات فالق البحر الميت، وخاصة صدع وادي عربة وصدع اليمونة، قد تراكمت فيها كمية كافية من الإجهاد التكتوني لتوليد زلزال كبير في المستقبل. وهذا ما يُعرف بـ”الفجوة الزلزالية” (Seismic Gap)، وهي منطقة على طول فالق نشط لم تشهد زلزالاً كبيراً منذ فترة طويلة مقارنة بفترة العودة المتوقعة. لذلك، فإن مراقبة النشاط الزلزالي الدقيق على طول فالق البحر الميت تُعد أولوية قصوى.
المعالم الجيومورفولوجية الناتجة عن فالق البحر الميت
إن الحركة المستمرة على مدى ملايين السنين على طول فالق البحر الميت لم تتسبب فقط في الزلازل، بل نحتت أيضاً تضاريس المنطقة بشكل فريد ومميز. يمكن رؤية بصمات فالق البحر الميت بوضوح في المشهد الطبيعي.
- الأودية الانكسارية (Rift Valleys): أبرز معلم هو الوادي الانكساري الطويل والعميق الذي يمتد من وادي عربة، مروراً بالبحر الميت، وصولاً إلى وادي الأردن وسهل البقاع. هذا الوادي يمثل التعبير السطحي المباشر لمسار فالق البحر الميت. الجروف الصدعية الحادة (Fault Scarps) التي تحد هذا الوادي من الشرق والغرب هي دليل واضح على الحركة الرأسية المصاحبة للحركة الأفقية.
- الأحواض الانفتاحية (Pull-Apart Basins): كما ذُكر سابقاً، فإن انحناءات الصدع أدت إلى تكوين منخفضات عميقة. حوض البحر الميت هو المثال الأبرز، حيث يصل عمقه إلى أكثر من 700 متر تحت قاع الوادي المحيط به (وأكثر من 430 متراً تحت مستوى سطح البحر). تتراكم في هذه الأحواض كميات هائلة من الرواسب التي توفر سجلاً جيولوجياً غنياً لتاريخ المنطقة المناخي والتكتوني. إن ديناميكية فالق البحر الميت هي المسؤولة المباشرة عن استمرار هبوط هذه الأحواض.
- الإزاحة الأفقية للمعالم الجيولوجية (Offset Features): أحد أقوى الأدلة على طبيعة الحركة الانزلاقية لـفالق البحر الميت هو وجود معالم جيولوجية (مثل مجاري الأنهار القديمة أو التكوينات الصخرية المميزة) تظهر وكأنها قُطعت وأُزيحت أفقياً عبر الصدع. من خلال قياس مقدار هذه الإزاحة ومقارنتها بعمر المعلم الجيولوجي، يمكن للعلماء حساب معدل الحركة طويل الأمد على فالق البحر الميت، والذي يتوافق مع القياسات الجيوديسية الحديثة.
- التراكيب الانضغاطية (Transpressional Structures): في المناطق التي ينحني فيها فالق البحر الميت بشكل تقييدي، مثل لبنان، أدت قوى الضغط إلى رفع تكتوني هائل. تُعتبر سلسلة جبال لبنان الشرقية والغربية، التي ترتفع إلى أكثر من 3000 متر، نتيجة مباشرة لهذه القوى الانضغاطية، حيث يمر فالق البحر الميت (صدع اليمونة) مباشرة بينهما.
الأبحاث الحديثة ومراقبة فالق البحر الميت
نظراً للمخاطر الزلزالية الكبيرة التي يمثلها، يخضع فالق البحر الميت لمراقبة وأبحاث مكثفة باستخدام أحدث التقنيات. تهدف هذه الأبحاث إلى فهم سلوكه بشكل أفضل وتقييم المخاطر المستقبلية.
الرصد الجيوديسي: تُستخدم تقنيات مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لقياس الحركة الدقيقة للقشرة الأرضية على جانبي فالق البحر الميت. وقد أكدت بيانات الـGPS معدل الحركة الانزلاقية اليسارية بحوالي 4-5 ملم/سنة، مما يوفر معلومات حيوية لحساب تراكم الإجهاد على طول قطاعات الصدع المختلفة.
الرصد الزلزالي: تنتشر شبكات من أجهزة قياس الزلازل (Seismometers) في دول المنطقة (الأردن، فلسطين، إسرائيل) لرصد وتسجيل حتى أصغر الهزات الأرضية. تساعد هذه البيانات في تحديد المناطق النشطة حالياً على فالق البحر الميت، وفهم خصائص انتشار الموجات الزلزالية في المنطقة، وتطوير أنظمة الإنذار المبكر.
علم الزلازل القديمة (Paleoseismology): يقوم الجيولوجيون بحفر خنادق عبر مسار فالق البحر الميت لدراسة طبقات الرواسب المشوهة. من خلال تأريخ هذه الطبقات، يمكنهم تحديد توقيت وحجم الزلازل الكبرى التي حدثت في عصور ما قبل التاريخ. هذه المعلومات ضرورية لتقدير فترات العودة الزلزالية وتحديد حجم الزلزال الأقصى المحتمل الذي يمكن أن يولده فالق البحر الميت.
الاستشعار عن بعد: تُستخدم صور الأقمار الصناعية وتقنيات مثل قياس التداخل الراداري (InSAR) لرسم خرائط التشوهات الأرضية الدقيقة المرتبطة بحركة فالق البحر الميت، مما يساعد في تحديد المناطق التي يتراكم فيها الإجهاد.
المخاطر المستقبلية وإدارة الكوارث
إن وجود ملايين الأشخاص الذين يعيشون في مدن كبرى تقع مباشرة على أو بالقرب من فالق البحر الميت (مثل العقبة، إربد، أريحا، طبريا، بيروت، ودمشق) يجعل من تقييم المخاطر الزلزالية وإدارة الكوارث أمراً بالغ الأهمية. إن تراكم الإجهاد على مدى قرون في بعض قطاعات الصدع يعني أن احتمالية وقوع زلزال كبير في المستقبل هي حقيقة لا يمكن تجاهلها.
تتضمن استراتيجيات التخفيف من المخاطر تطوير وتطبيق كودات بناء مقاومة للزلازل، وتخطيط استخدام الأراضي لتجنب البناء في المناطق الأكثر خطورة، وتطوير خطط استجابة للطوارئ، ورفع مستوى الوعي العام حول كيفية التصرف أثناء وبعد وقوع الزلزال. إن التعاون الإقليمي بين الدول التي يمر بها فالق البحر الميت في مجال البحث العلمي وتبادل البيانات يُعد عنصراً حاسماً لتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة هذا التحدي الطبيعي. إن فهم سلوك فالق البحر الميت ليس مجرد مسألة أكاديمية، بل هو ضرورة حتمية لحماية الأرواح والممتلكات.
خاتمة: فالق البحر الميت ككيان جيولوجي حي
في الختام، يمثل فالق البحر الميت أكثر من مجرد خط على الخريطة الجيولوجية؛ إنه كيان ديناميكي حي يشكل المشهد الطبيعي، ويحرك الأرض تحت أقدامنا، ويحمل في طياته تاريخاً طويلاً من التغيرات العنيفة. من خلال حركته الانزلاقية اليسارية المعقدة، خلق فالق البحر الميت بعضاً من أروع التضاريس في العالم، من أعمق نقطة على اليابسة إلى القمم الشاهقة لجبال لبنان. وفي الوقت نفسه، يظل فالق البحر الميت مصدراً كامناً لخطر زلزالي كبير يتطلب دراسة مستمرة ومراقبة دقيقة واستعداداً دائماً. إن الجهود العلمية المبذولة لفهم هذا النظام الصدعي العملاق لا تساهم فقط في تقدم علوم الأرض، بل توفر أيضاً الأساس الذي لا غنى عنه لبناء مستقبل أكثر أماناً للمجتمعات التي تعيش في ظل فالق البحر الميت. إن استمرار دراسة فالق البحر الميت سيكشف المزيد من أسرار باطن الأرض ويساعدنا على التعايش بشكل أفضل مع الكوكب الذي نعيش عليه.
الأسئلة الشائعة
1. ما هي الآلية التكتونية الدقيقة لحركة فالق البحر الميت؟
الآلية التكتونية الأساسية لـ فالق البحر الميت هي آلية الصدع التحويلي ذي الحركة الانزلاقية الجانبية اليسارية (Left-Lateral Strike-Slip Transform Fault). تنشأ هذه الحركة نتيجة للحركة التفاضلية بين الصفيحة العربية التي تتحرك شمالاً بسرعة أكبر، والصفيحة الإفريقية (صفيحة سيناء الفرعية) التي تتحرك شمالاً بسرعة أبطأ. يبلغ معدل الحركة النسبية بين الصفيحتين حوالي 4-5 ملليمترات سنوياً. ومع ذلك، فإن مسار الصدع ليس مستقيماً تماماً؛ حيث تؤدي الانحناءات على طوله إلى تعقيد هذه الآلية. في المناطق التي ينحني فيها الصدع إلى اليمين (باتجاه الشرق)، تنشأ قوى تمددية (Transtension)، مما يؤدي إلى هبوط القشرة الأرضية وتكوين أحواض انفتاحية عميقة (Pull-Apart Basins)، مثل حوض البحر الميت وبحيرة طبريا. أما في المناطق التي ينحني فيها الصدع إلى اليسار (باتجاه الغرب)، مثل منطقة لبنان، فتنشأ قوى انضغاطية (Transpression)، مما يؤدي إلى رفع تكتوني وتكوين سلاسل جبلية شاهقة مثل جبال لبنان الشرقية والغربية.
2. كيف تشكّل حوض البحر الميت، أعمق نقطة على اليابسة، بسبب هذا الفالق؟
يُعد حوض البحر الميت مثالاً نموذجياً وكلاسيكياً على الأحواض الانفتاحية (Pull-Apart Basins) التي تتشكل على طول الصدوع الانزلاقية. يقع الحوض في منطقة يتغير فيها اتجاه فالق البحر الميت الرئيسي، حيث يتكون من عدة فروع متوازية ومنحنية قليلاً. عندما تتحرك الكتلة الشرقية (الصفيحة العربية) شمالاً بشكل أسرع من الكتلة الغربية (صفيحة سيناء)، فإن هذه الهندسة المعقدة للصدع تؤدي إلى تمدد وهبوط القشرة الأرضية في المنطقة الواقعة بين هذه الفروع الصدعية. هذا الهبوط المستمر على مدى ملايين السنين، والذي لا يزال نشطاً حتى اليوم، هو الذي أدى إلى تكوين هذا المنخفض العميق الذي يصل إلى أكثر من 430 متراً تحت مستوى سطح البحر. تتراكم في هذا الحوض كميات هائلة من الرواسب التي يصل سمكها إلى عدة كيلومترات، وهي تسجل التاريخ الجيولوجي والمناخي للمنطقة، مما يجعل من دراسة حوض فالق البحر الميت أمراً ذا أهمية علمية فائقة.
3. ما هو مقدار الإزاحة الكلية التي حدثت على طول فالق البحر الميت منذ نشأته؟
تقدر الإزاحة الأفقية التراكمية ذات الطبيعة اليسارية على طول فالق البحر الميت بحوالي 107 كيلومترات. تم التوصل إلى هذا الرقم من خلال دراسة ومقارنة التكوينات الجيولوجية والصخرية المميزة على جانبي الفالق. وجد الجيولوجيون أن هذه التكوينات، التي كانت متصلة في الأصل، قد تم فصلها وإزاحتها بهذه المسافة الهائلة. استناداً إلى تأريخ الصخور البركانية والطبقات الرسوبية، يُعتقد أن نشاط فالق البحر الميت بدأ في عصر الميوسين المبكر إلى المتوسط، أي قبل حوالي 18 إلى 20 مليون سنة. بقسمة إجمالي الإزاحة (107 كم) على عمر الفالق، نحصل على متوسط معدل الحركة طويل الأمد الذي يتراوح بين 5 و 6 ملم/سنة، وهو ما يتوافق بشكل كبير مع معدلات الحركة الحالية المقاسة باستخدام تقنيات GPS الحديثة.
4. ما هي أبرز الزلازل التاريخية التي ارتبطت بفالق البحر الميت، وماذا تعلمنا منها؟
يمتلك فالق البحر الميت سجلاً زلزالياً تاريخياً غنياً ومدمراً. من أبرز هذه الزلازل زلزال عام 749 م، الذي دمر مدناً رئيسية في وادي الأردن مثل بيسان وجرش وطبريا، وزلزال عام 1202 م الذي ضرب القطاع الشمالي من الفالق في سوريا ولبنان وكان من أكثر الزلازل فتكاً في تاريخ المنطقة. كما يُذكر زلزال عام 1837 م الذي دمر صفد وطبريا. تعلمنا من هذه السجلات التاريخية، التي تم التحقق منها من خلال دراسات علم الزلازل القديمة (Paleoseismology)، عدة أمور هامة: أولاً، أن فالق البحر الميت قادر على توليد زلازل كبرى تتجاوز قوتها 7 درجات. ثانياً، أن قطاعات مختلفة من الفالق تنشط في فترات مختلفة، مما يعني أن الخطر الزلزالي ليس متساوياً على طول امتداده في أي وقت معين. ثالثاً، أن فترات العودة للزلازل الكبرى على قطاع معين يمكن أن تتراوح من بضع مئات إلى أكثر من ألف عام، مما يفسر فترات الهدوء النسبي الحالية في بعض المناطق.
5. هل يُعتبر فالق البحر الميت نشطاً اليوم، وما هي الأدلة على ذلك؟
نعم، يُعتبر فالق البحر الميت نظاماً صدعياً نشطاً للغاية في وقتنا الحاضر. الأدلة على هذا النشاط متعددة وقاطعة. أولاً، القياسات الجيوديسية باستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) تُظهر بوضوح أن جانبي الفالق لا يزالان يتحركان بالنسبة لبعضهما البعض بمعدل 4-5 ملم/سنة. هذا يعني أن الإجهاد التكتوني يتراكم باستمرار في صخور القشرة الأرضية على طول الفالق. ثانياً، شبكات الرصد الزلزالي تسجل باستمرار هزات أرضية صغيرة ومتوسطة (Micro-earthquakes) تتركز على طول مسار فالق البحر الميت وفروعه، مما يؤكد أنه نظام حي ومجهَد. ثالثاً، الأدلة الجيومورفولوجية، مثل الجروف الصدعية الحديثة ومجاري الأنهار المنزاحة، تشير إلى أن الحركة قد حدثت في الماضي الجيولوجي القريب جداً (آلاف السنين الأخيرة)، مما يعني استمرارية النشاط.
6. ما هي “الفجوة الزلزالية” (Seismic Gap)، وهل توجد فجوات على طول فالق البحر الميت؟
الفجوة الزلزالية هي مصطلح يُستخدم في علم الزلازل لوصف قطاع من فالق نشط معروف تاريخياً بإنتاج زلازل كبيرة، ولكنه لم يشهد زلزالاً كبيراً منذ فترة طويلة تفوق متوسط فترة العودة الزلزالية لذلك القطاع. يُعتقد أن هذه الفجوات هي المناطق الأكثر ترجيحاً لوقوع زلزال كبير في المستقبل، حيث يكون تراكم الإجهاد فيها قد وصل إلى مستويات حرجة. بناءً على السجلات التاريخية والجيولوجية، يعتقد العديد من العلماء بوجود فجوات زلزالية على طول فالق البحر الميت. على سبيل المثال، القطاع الجنوبي من الفالق في وادي عربة لم يشهد زلزالاً كبيراً موثقاً منذ أكثر من 800 عام، وكذلك صدع اليمونة في لبنان. هذه الفترات الطويلة من الهدوء النسبي تثير القلق من أن هذه القطاعات من فالق البحر الميت قد تكون “حبلى” بزلزال كبير قادم.
7. كيف يختلف النشاط التكتوني في الجزء الجنوبي من الفالق (وادي عربة) عن الجزء الشمالي (لبنان)؟
يظهر فالق البحر الميت تبايناً ملحوظاً في الطابع التكتوني بين قطاعاته الجنوبية والشمالية. في الجنوب، وتحديداً في وادي عربة، يكون مسار الفالق مستقيماً نسبياً، وتسود فيه الحركة الانزلاقية الجانبية اليسارية البحتة مع مكون تمددي طفيف. أما في الشمال، وتحديداً في لبنان حيث يمر صدع اليمونة، فإن مسار الفالق ينحني بشكل ملحوظ نحو الغرب. هذا الانحناء التقييدي (Restraining Bend) يمنع الحركة الانزلاقية السلسة ويؤدي إلى نشوء مكون انضغاطي قوي (Transpression). نتيجة لذلك، بدلاً من تكوين أحواض منخفضة، أدت هذه القوى الانضغاطية إلى رفع تكتوني هائل، مما أدى إلى تشكيل سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية الشاهقتين اللتين يفصل بينهما سهل البقاع الذي يمثل مسار فالق البحر الميت. هذا التباين يجعل من الفالق مختبراً طبيعياً لدراسة كلا النوعين من الأنظمة التحويلية (التمددية والانضغاطية).
8. ما هي التقنيات الحديثة المستخدمة في مراقبة ودراسة فالق البحر الميت؟
تُستخدم مجموعة متكاملة من التقنيات الحديثة لدراسة ورصد فالق البحر الميت. أبرزها هي تقنيات الجيوديسيا الفضائية مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، التي تقيس بدقة تصل إلى أجزاء من المليمتر حركة الصفائح التكتونية وتراكم الإجهاد. ثانياً، شبكات الرصد الزلزالي الرقمية التي تسجل الهزات الأرضية وتساعد في تحديد مواقعها وقوتها وآليات حدوثها. ثالثاً، علم الزلازل القديمة (Paleoseismology)، والذي يتضمن حفر خنادق عبر الفالق لدراسة طبقات الأرض المشوهة وتحديد تاريخ وحجم الزلازل القديمة. رابعاً، تقنيات الاستشعار عن بعد مثل الرادار ذي الفتحة الاصطناعية المتداخلة (InSAR)، الذي يمكنه كشف التشوهات الدقيقة في سطح الأرض على مساحات واسعة. وأخيراً، النمذجة الحاسوبية التي تستخدم كل هذه البيانات لمحاكاة سلوك فالق البحر الميت وتقييم المخاطر الزلزالية المستقبلية.
9. هل يؤثر فالق البحر الميت على توزيع الموارد المائية في المنطقة؟
نعم، يلعب فالق البحر الميت دوراً حاسماً ومباشراً في التحكم في توزيع الموارد المائية السطحية والجوفية في المنطقة. لقد أدت الحركة على طول الفالق إلى تكوين وادي الأردن الانكساري، والذي أصبح المسار الطبيعي لنهر الأردن وروافده. كما شكلت الأحواض الانفتاحية مثل حوض البحر الميت وبحيرة طبريا، والتي تعمل كخزانات طبيعية للمياه. من الناحية الهيدروجيولوجية، يعمل فالق البحر الميت كنظام معقد من الحواجز والممرات للمياه الجوفية. يمكن أن تعمل مناطق الصدع المتكسرة كممرات عالية النفاذية تسمح بتدفق المياه الجوفية وظهور الينابيع (مثل ينابيع أريحا والحمة)، بينما يمكن أن تعمل مناطق الطين الصدعي (Fault Gouge) كحواجز منخفضة النفاذية تمنع تدفق المياه وتؤدي إلى اختلاف كبير في مناسيب المياه الجوفية على جانبي الفالق.
10. ما هي المخاطر الرئيسية التي يفرضها فالق البحر الميت على المراكز السكانية الحديثة؟
الخطر الرئيسي الذي يفرضه فالق البحر الميت هو خطر زلزالي كبير على العديد من المدن والمراكز السكانية الكبرى التي تقع مباشرة عليه أو بالقرب منه، مثل العقبة، أريحا، بيسان، طبريا، بيروت، ودمشق. يمكن لزلزال كبير (بقوة 7 أو أكثر) أن يسبب دماراً هائلاً في البنية التحتية، وخسائر فادحة في الأرواح، وانهيارات أرضية واسعة النطاق في المناطق الجبلية والمنحدرات الشديدة على طول وادي الأردن. الخطر الثانوي هو ظاهرة التسييل (Liquefaction)، حيث تفقد التربة المشبعة بالمياه قوتها وتتصرف كسائل أثناء الاهتزاز الزلزالي، مما يؤدي إلى انهيار المباني. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تتسبب الزلازل في حدوث أمواج “تسونامي” محلية (Seiche) في المسطحات المائية المغلقة مثل البحر الميت وخليج العقبة. لذلك، فإن تطبيق كودات بناء صارمة مقاومة للزلازل وتطوير خطط فعالة للاستجابة للطوارئ يُعد أمراً حيوياً للمدن الواقعة في ظل فالق البحر الميت.