الكهرباء: كيف غيّر هذا الاختراع وجه البشرية؟
من التجارب الأولى إلى ثورة صناعية - كيف اكتُشفت القوة الكهربائية؟

تُعَدُّ الكهرباء واحدة من أعظم الاكتشافات التي شهدتها الحضارة الإنسانية عبر تاريخها الطويل. إن هذه القوة الخفية التي تسري في الأسلاك والدوائر لم تكن يوماً اختراعاً واحداً بل سلسلة من الاكتشافات والتجارب امتدت عبر قرون.
المقدمة
لقد عاش الإنسان آلاف السنين في ظلام دامس بعد غروب الشمس، معتمداً على النار والشموع للإضاءة. كانت الحياة محدودة بساعات النهار، والعمل يتوقف مع حلول الليل. لكن مع اكتشاف الظواهر الكهربائية وتطويرها تدريجياً، شهد العالم تحولاً جذرياً غير مسار البشرية بأكملها؛ إذ انتقلت المجتمعات من عصر الظلام إلى عصر الإضاءة المستمرة والطاقة اللامحدودة.
بالإضافة إلى ذلك، لم تقتصر الكهرباء على مجرد توفير الإضاءة، بل أصبحت العمود الفقري لكل جوانب الحياة الحديثة. فقد دخلت في الصناعة والزراعة والطب والاتصالات والنقل، حتى باتت من المستحيل تخيل الحياة المعاصرة من دونها. هذا وقد استغرق الأمر مئات السنين من البحث والتجريب قبل أن تصبح الطاقة الكهربائية متاحة في المنازل والمصانع كما نعرفها اليوم.
ما هي الكهرباء وكيف تم اكتشافها؟
تُمثل الكهرباء شكلاً من أشكال الطاقة ناتجاً عن حركة الإلكترونات (Electrons) في المواد الموصلة. إن أول إشارة موثقة للظواهر الكهربائية تعود إلى الفيلسوف اليوناني طاليس الميليتي حوالي عام 600 قبل الميلاد، عندما لاحظ أن فرك الكهرمان بقطعة من الصوف يجعله يجذب الأجسام الخفيفة. كلمة “كهرباء” نفسها مشتقة من الكلمة اليونانية “إلكترون” (Electron) التي تعني الكهرمان، وهذا يعكس الأصول القديمة لهذا العلم.
بينما ظلت هذه الملاحظة مجرد فضول فلسفي لقرون طويلة، لم يبدأ الفهم العلمي الحقيقي للكهرباء إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر. ففي عام 1600، نشر الطبيب الإنجليزي وليام جيلبرت كتابه “De Magnete” الذي ميّز فيه بين المغناطيسية والكهرباء الساكنة (Static Electricity). كما أن العالم الألماني أوتو فون غيريكه اخترع أول آلة كهروستاتيكية في عام 1660، مما فتح الباب أمام تجارب أكثر تعقيداً. ومما يثير الاهتمام أن العلماء في تلك الفترة كانوا يعتقدون أن الكهرباء نوع من السوائل الغامضة التي تتدفق في الأجسام.
من هم رواد اكتشاف الظواهر الكهربائية؟
العلماء الذين أسسوا علم الكهرباء
لقد ساهم العديد من العلماء والمخترعين في تطوير فهمنا للكهرباء وتحويلها إلى تقنية قابلة للاستخدام العملي. فمن هم يا ترى هؤلاء الرواد؟ إليك أبرزهم:
• بنجامين فرانكلين (Benjamin Franklin): في عام 1752، أجرى فرانكلين تجربته الشهيرة مع الطائرة الورقية أثناء عاصفة رعدية، مما أثبت أن البرق ظاهرة كهربائية. كما أنه قدّم مفهوم الشحنات الموجبة والسالبة، وهو أساس فهمنا الحديث للكهرباء.
• أليساندرو فولتا (Alessandro Volta): في عام 1800، اخترع الفيزيائي الإيطالي أول بطارية كهربائية حقيقية سميت “العمود الفولطي” (Voltaic Pile)؛ إذ كان هذا الاختراع ثورياً لأنه وفر مصدراً مستمراً للتيار الكهربائي بدلاً من الشحنات الساكنة المؤقتة.
• مايكل فاراداي (Michael Faraday): اكتشف فاراداي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر مبدأ الحث الكهرومغناطيسي (Electromagnetic Induction)، وهو الأساس الذي تعمل عليه المولدات والمحركات الكهربائية. هذا الاكتشاف حوّل الكهرباء من فضول علمي إلى قوة صناعية.
• توماس إديسون (Thomas Edison) ونيكولا تيسلا (Nikola Tesla): في أواخر القرن التاسع عشر، تنافس هذان المخترعان في ما عُرف بـ”حرب التيارات” (War of Currents). دعم إديسون التيار المستمر (DC)، بينما روّج تيسلا للتيار المتردد (AC) الذي أصبح في النهاية المعيار العالمي لنقل الطاقة.
• جيمس كلارك ماكسويل (James Clerk Maxwell): وضع ماكسويل في ستينيات القرن التاسع عشر المعادلات الرياضية التي توحد الكهرباء والمغناطيسية والضوء في نظرية واحدة شاملة، مما أسس الفهم النظري العميق للظواهر الكهرومغناطيسية.
كيف تحولت الكهرباء من تجربة علمية إلى اختراع عملي؟
انتقلت الكهرباء من المختبرات العلمية إلى الحياة اليومية بفضل سلسلة من الابتكارات التقنية في القرن التاسع عشر. فقد كانت البطارية الأولى لفولتا مجرد بداية؛ إذ احتاجت البشرية إلى طريقة لتوليد كميات كبيرة من الكهرباء بتكلفة معقولة. جاء الحل مع تطوير المولدات الكهربائية (Electric Generators) التي تحول الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية. في عام 1831، نجح فاراداي في بناء أول مولد كهربائي بدائي، لكن التطبيقات العملية الواسعة لم تأتِ إلا بعد عقود من التحسينات.
من ناحية أخرى، كانت مشكلة نقل الكهرباء عبر مسافات طويلة تشكل عقبة كبيرة. فهل يا ترى كان بالإمكان إضاءة مدينة بأكملها من محطة توليد واحدة؟ الإجابة جاءت مع اختراع المحولات الكهربائية (Transformers) التي تسمح برفع أو خفض الجهد الكهربائي. إن التيار المتردد الذي دافع عنه تيسلا سمح بنقل الكهرباء لمسافات تمتد لمئات الكيلومترات، بينما كان التيار المستمر محدوداً بمسافات قصيرة. وبالتالي، بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، بدأت محطات الطاقة الكهربائية في الظهور في المدن الكبرى، وأُضيئت الشوارع للمرة الأولى بالمصابيح الكهربائية بدلاً من مصابيح الغاز.
ما الاختراعات التي مهدت الطريق لعصر الكهرباء؟
الابتكارات التقنية المحورية
تطلب ظهور عصر الكهرباء الحديث مجموعة من الاختراعات المترابطة التي عززت بعضها البعض. وكذلك، لم يكن كافياً توليد الكهرباء فحسب، بل كان ضرورياً إيجاد استخدامات عملية لها تبرر الاستثمار الضخم في البنية التحتية:
• المصباح الكهربائي (Electric Lamp): رغم أن جوزيف سوان في بريطانيا وتوماس إديسون في أمريكا طورا مصابيح كهربائية عملية بشكل مستقل في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، إلا أن إديسون كان أول من أنشأ نظاماً كاملاً لتوزيع الكهرباء للمنازل. في 4 سبتمبر 1882، أضاء إديسون 400 مصباح في منطقة وول ستريت بنيويورك، معلناً بداية عصر الإضاءة الكهربائية.
• التلغراف والهاتف: اخترع صموئيل مورس التلغراف الكهربائي في أربعينيات القرن التاسع عشر، وهو أول استخدام تجاري واسع النطاق للكهرباء في الاتصالات. بعد ذلك بثلاثين عاماً، اخترع ألكسندر جراهام بيل الهاتف في 1876، محدثاً ثورة في كيفية تواصل البشر عبر المسافات.
• المحرك الكهربائي (Electric Motor): طوّر العديد من المخترعين نماذج مختلفة للمحركات الكهربائية في منتصف القرن التاسع عشر. هذه المحركات حولت الكهرباء إلى حركة ميكانيكية، مما فتح إمكانيات لا حصر لها في الصناعة والنقل.
• المحطات الكهربائية (Power Stations): أول محطة طاقة تجارية في العالم كانت محطة بيرل ستريت التي افتتحها إديسون في نيويورك عام 1882. استخدمت محركات بخارية لتشغيل المولدات الكهربائية، وزودت حوالي 85 مبنى بالطاقة.
• شبكات الكهرباء (Electrical Grids): تطور مفهوم الشبكة الكهربائية المترابطة تدريجياً في أوائل القرن العشرين، مما سمح بتوزيع الطاقة بكفاءة أكبر وموثوقية أعلى عبر مناطق واسعة.
كيف أثرت الكهرباء على المجتمعات الإنسانية؟
التأثير الاجتماعي للكهرباء كان عميقاً وشاملاً بطريقة لم يشهدها أي اختراع آخر في التاريخ. لقد غيرت الكهرباء أنماط الحياة اليومية بشكل جذري؛ إذ سمحت الإضاءة الكهربائية بتمديد ساعات العمل والترفيه إلى ما بعد غروب الشمس. المصانع التي كانت تعتمد على الطاقة البخارية أو المائية أصبحت قادرة على العمل في أي مكان وفي أي وقت. وعليه فإن الإنتاجية الصناعية تضاعفت عدة مرات في العقود الأولى من القرن العشرين.
على النقيض من ذلك، كان انتشار الكهرباء بطيئاً وغير متساوٍ بين المناطق المختلفة. المدن الكبرى في أوروبا وأمريكا الشمالية حصلت على الكهرباء أولاً في تسعينيات القرن التاسع عشر، بينما ظلت المناطق الريفية والدول النامية دون كهرباء لعقود طويلة. برأيكم ماذا كان تأثير هذا التفاوت؟ الإجابة هي أنه خلق فجوة حضارية واقتصادية كبيرة بين المجتمعات، فالمناطق المكهربة شهدت نمواً اقتصادياً متسارعاً، بينما تخلفت المناطق الأخرى. الجدير بالذكر أنه حتى في الولايات المتحدة، لم تصل الكهرباء إلى معظم المزارع إلا في أربعينيات القرن العشرين بفضل برامج حكومية خاصة.
ما التحديات التي واجهت نشر الكهرباء عالمياً؟
التحديات التقنية كانت هائلة في المراحل الأولى لنشر الكهرباء. كانت تكلفة بناء محطات الطاقة وشبكات النقل باهظة للغاية، مما جعلها مشروعاً يتطلب استثمارات ضخمة من الحكومات أو الشركات الكبرى. كما أن السلامة كانت قضية رئيسة؛ إذ وقعت العديد من الحوادث المميتة في السنوات الأولى بسبب قلة الخبرة في التعامل مع هذه الطاقة الجديدة. الأسلاك المكشوفة والعزل الرديء تسببا في حرائق عديدة، والصدمات الكهربائية قتلت العمال والمستخدمين على حد سواء.
من جهة ثانية، كانت هناك تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة. عمال الإضاءة بالغاز خافوا من فقدان وظائفهم، وقاوموا انتشار الكهرباء في بعض المدن. كذلك، كان هناك تردد عام من استخدام تقنية جديدة وغامضة؛ إذ انتشرت شائعات عن مخاطر الكهرباء على الصحة. بالمقابل، قدّم المؤيدون للكهرباء عروضاً عامة ومعارض مبهرة لإقناع الناس بفوائدها وسلامتها. معرض باريس الدولي عام 1881 والمعرض الكولومبي العالمي في شيكاغو عام 1893 كانا نقاط تحول مهمة في قبول الجمهور للكهرباء. في معرض شيكاغو، أضاء تيسلا وشركة ويستنجهاوس 200 ألف مصباح كهربائي، مما أذهل الزوار وأظهر إمكانيات الطاقة الكهربائية بشكل مبهر.
الخاتمة
إذاً، الكهرباء لم تكن اختراعاً واحداً لشخص واحد، بل كانت ثمرة قرون من التجارب والاكتشافات المتراكمة. من ملاحظة طاليس البسيطة للكهرمان إلى شبكات الطاقة العملاقة التي تربط القارات اليوم، كان الطريق طويلاً ومليئاً بالتحديات. لقد حولت الكهرباء الحضارة الإنسانية بطريقة لم يسبق لها مثيل، وأصبحت العصب الحي للحياة الحديثة في كل مكان. ومما لا شك فيه أن مستقبل البشرية سيعتمد بشكل متزايد على تطوير مصادر جديدة ونظيفة لتوليد هذه الطاقة الحيوية.
والآن، بعد معرفتك بهذا التاريخ العظيم، هل فكرت يوماً كيف ستبدو حياتك اليومية لو اختفت الكهرباء فجأة لمدة أسبوع كامل؟