الدماغ البشري: كيف يستهلك خُمس طاقة الجسم رغم صغر حجمه؟
لماذا يحتاج العضو الأكثر تعقيداً في أجسامنا إلى كل هذه الطاقة؟

يُشكل الدماغ البشري واحدة من أكثر المفارقات إثارة للدهشة في علم وظائف الأعضاء. بينما لا يتجاوز وزنه 1.4 كيلوغرام تقريباً، فإنه يلتهم نحو 20% من إجمالي الطاقة التي يستهلكها الجسم بأكمله، متفوقاً بذلك على جميع الأعضاء الأخرى مجتمعة من حيث الكفاءة الاستهلاكية.
لماذا يُعَدُّ الدماغ البشري مستهلكاً نَهِماً للطاقة؟
قد يتساءل البعض عن السبب وراء هذا الاستهلاك الهائل للطاقة من قبل عضو بهذا الحجم الصغير نسبياً. الإجابة تكمن في الطبيعة الفريدة للعمليات التي يقوم بها العقل البشري على مدار الساعة، دون توقف أو راحة حقيقية؛ إذ يحتوي على نحو 86 مليار خلية عصبية (Neurons)، وكل خلية منها تُجري آلاف الاتصالات مع الخلايا الأخرى عبر نقاط التشابك العصبي (Synapses).
لقد أثبتت الأبحاث العلمية أن هذه الخلايا العصبية تحتاج إلى طاقة مستمرة للحفاظ على التوازن الكهروكيميائي الضروري لنقل الإشارات. كما أن عملية ضخ الأيونات عبر أغشية الخلايا، وإطلاق الناقلات العصبية (Neurotransmitters)، واستعادة التوازن بعد كل نبضة كهربائية، كل ذلك يتطلب كميات هائلة من جزيء الطاقة المسمى ATP. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدماغ البشري يعمل في بيئة معزولة نسبياً عن باقي الجسم بفضل الحاجز الدموي الدماغي (Blood-Brain Barrier)، مما يجعله يعتمد بشكل حصري تقريباً على الغلوكوز كمصدر للطاقة.
كيف يوزع الدماغ البشري استهلاكه للطاقة داخلياً؟
ليس كل أجزاء المخ تستهلك الطاقة بنفس المعدل. فما هي المناطق الأكثر نَهَماً؟ الدراسات الحديثة باستخدام تقنيات التصوير المتقدمة كالتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET Scan) كشفت عن توزيع مثير للاهتمام:
توزيع استهلاك الطاقة في مناطق الدماغ:
- القشرة المخية (Cerebral Cortex): تستهلك الجزء الأكبر من الطاقة نظراً لمسؤوليتها عن التفكير، واللغة، والوعي.
- المخيخ (Cerebellum): يحتاج إلى طاقة كبيرة لتنسيق الحركات وحفظ التوازن.
- جذع الدماغ (Brainstem): رغم صغر حجمه، يستهلك طاقة معتبرة لتنظيم الوظائف الحيوية كالتنفس وضربات القلب.
- الحُصين (Hippocampus): منطقة حاسمة للذاكرة تتطلب إمداداً ثابتاً من الطاقة.
من ناحية أخرى، فإن معظم هذه الطاقة – نحو 60 إلى 80% – تُستخدم للحفاظ على النشاط القاعدي للخلايا العصبية والتواصل بينها، وليس فقط أثناء التفكير النشط. وبالتالي، فإن العقل يعمل كمحطة طاقة دائمة التشغيل، حتى عندما نعتقد أننا في حالة راحة تامة.
ماذا يحدث عندما ينقص إمداد الطاقة إلى الدماغ البشري؟
التساؤل المنطقي هنا: هل سمعت من قبل عن شخص فقد الوعي بسبب انخفاض السكر في الدم؟ هذه الحالة توضح مدى اعتماد المخ الحرج على الإمداد المستمر بالطاقة. على النقيض من العضلات التي يمكنها تخزين الغلوكوز على شكل غليكوجين، فإن الدماغ البشري لا يملك القدرة على تخزين الطاقة بكميات كبيرة؛ إذ يحتاج إلى تدفق دموي مستمر ومنتظم.
فقد تبيّن أن نقص الأكسجين أو الغلوكوز لبضع دقائق فقط قد يؤدي إلى تلف دائم في خلايا المخ. هذا وقد لوحظ في حالات السكتة الدماغية (Stroke) أن المناطق المحرومة من الدم تبدأ في الموت خلال دقائق معدودة، مما يؤكد الحاجة الملحة والمستمرة لهذا العضو الحيوي للطاقة. بينما يمكن للجسم أن يعوض عن نقص الطاقة في عضلات الساقين أو الذراعين، فإن أي نقص في إمداد المخ يُعَدُّ حالة طارئة تستدعي استجابة فورية من الجسم بأكمله.
هل يختلف استهلاك الطاقة بين النشاط الذهني والراحة؟
إن هذا السؤال شائع بين الطلاب والباحثين على حد سواء. برأيكم، ماذا يحدث عندما تحل مسألة رياضية معقدة مقارنة بالجلوس أمام التلفاز؟ الإجابة قد تكون مفاجئة للبعض. الدماغ البشري يستهلك طاقة هائلة حتى في حالة الراحة، وما يُسمى بـ “شبكة الوضع الافتراضي” (Default Mode Network) تبقى نشطة وتستهلك كميات كبيرة من الطاقة عندما لا نركز على مهمة محددة.
الجدير بالذكر أن الأبحاث أظهرت أن زيادة النشاط الذهني المركز ترفع استهلاك الطاقة بنسبة 5% فقط عن مستوى الراحة. هذا يعني أن معظم الطاقة تُستخدم للوظائف الأساسية والصيانة الخلوية المستمرة، وليس فقط للتفكير الواعي. وكذلك أثناء النوم، لا ينخفض استهلاك العقل للطاقة إلا بمقدار ضئيل؛ إذ يبقى منشغلاً بمعالجة الذكريات، وتنظيف الفضلات الأيضية، وتعزيز الروابط العصبية المهمة.
كيف نضمن إمداد الدماغ البشري بالطاقة الكافية؟
انظر إلى نمط حياتك اليومي. فهل تمنح عقلك ما يحتاجه من وقود؟ الحفاظ على إمداد ثابت من الطاقة للمخ يتطلب نهجاً متكاملاً يشمل التغذية، والترطيب، والنوم الجيد. من جهة ثانية، فإن تناول وجبات متوازنة تحتوي على كربوهيدرات معقدة يضمن إطلاقاً تدريجياً للغلوكوز في الدم، مما يمنع التقلبات الحادة التي قد تؤثر سلباً على الوظائف الإدراكية.
بالمقابل، فإن الجفاف حتى الخفيف قد يؤثر على الأداء المعرفي والتركيز. كما أن أحماض أوميغا-3 الدهنية الموجودة في الأسماك والمكسرات تدعم بنية أغشية الخلايا العصبية. ومما يجب ذكره أن النوم الكافي – من 7 إلى 9 ساعات للبالغين – يسمح للدماغ بتجديد مخازن الطاقة وإزالة المنتجات الثانوية الضارة التي تتراكم أثناء اليقظة. وعليه فإن ممارسة الرياضة بانتظام تعزز تدفق الدم إلى المخ، مما يحسن كفاءة نقل الأكسجين والمواد المغذية.
الخاتمة
يبقى الدماغ البشري تحفة معمارية بيولوجية تستحق كل ذرة من الطاقة التي يستهلكها. إن فهم هذا الاستهلاك الضخم للطاقة – 20% من إجمالي طاقة الجسم – يساعدنا على تقدير أهمية الرعاية الصحية السليمة لهذا العضو الاستثنائي. فقد تبين من خلال الدراسات العلمية المتتالية أن هذا العضو الذي لا يشكل سوى 2% من وزن الجسم، يُشغّل كل جانب من جوانب حياتنا، من أبسط الحركات إلى أعمق الأفكار الفلسفية.
هل أنت مستعد لإعطاء عقلك الاهتمام والطاقة التي يستحقها للحفاظ على أدائه الأمثل؟