الإنثالبي النوعي: ما الذي يجعله مفتاحاً لفهم سلوك الطاقة في الأنظمة الحرارية؟
هل يمكن لخاصية واحدة أن تكشف أسرار انتقال الطاقة وتحولات المادة؟

بقلم: د. عبد الكريم الحمصي
مهندس ديناميكا حرارية بخبرة 17 عاماً في تصميم أنظمة الطاقة والتبريد، وأستاذ مساعد في قسم الهندسة الميكانيكية
لقد أمضيت سنوات طويلة في دراسة سلوك الطاقة داخل المواد، وما زلت أجد نفسي مفتوناً بالعمق الذي تحمله بعض المفاهيم الحرارية البسيطة ظاهرياً. إن فهم كيفية تخزين الطاقة وانتقالها في المواد المختلفة يشكل حجر الأساس لكل ما نصممه من محركات، مبردات، وأنظمة طاقة.
ما هو الإنثالبي النوعي ولماذا نحتاجه في الديناميكا الحرارية؟
الإنثالبي النوعي يمثل كمية الطاقة الحرارية المخزنة في وحدة الكتلة من المادة عند ضغط ودرجة حرارة معينين. فهو ببساطة الإنثالبي الكلي (Enthalpy) مقسوماً على الكتلة؛ إذ نحتاج في كثير من التطبيقات الهندسية إلى معرفة خصائص المادة بشكل مستقل عن كميتها. أذكر عندما كنت أعمل على تصميم نظام تكييف لمصنع نسيج كبير في دمشق عام 2015، واجهتنا مشكلة في حساب الطاقة اللازمة لتبريد كمية هائلة من الهواء الرطب. كانت الحسابات معقدة للغاية عندما استخدمنا الإنثالبي الكلي، لكن عند التحول لاستخدام الإنثالبي النوعي، أصبحت المعادلات أكثر بساطة ومباشرة.
من ناحية أخرى، يتيح لنا هذا المفهوم مقارنة خصائص مواد مختلفة بغض النظر عن كمياتها. تخيل أنك تريد معرفة أي سائل أفضل لنقل الحرارة في نظام تسخين؛ الماء أم الزيت؟ بدون الإنثالبي النوعي، ستكون المقارنة عشوائية ومربكة. بينما عند استخدام هذه الخاصية، نستطيع بكل وضوح تحديد قدرة كل مادة على تخزين ونقل الطاقة الحرارية لكل كيلوغرام منها. وبالتالي فإن القرارات الهندسية تصبح مبنية على أسس علمية دقيقة وقابلة للقياس الكمي.
كيف يختلف الإنثالبي النوعي عن الإنثالبي الكلي ولماذا هذا التمييز ضروري؟
الفرق الجوهري يكمن في اعتمادية كل منهما على كتلة المادة. الإنثالبي الكلي (H) هو خاصية شاملة (Extensive Property)، أي أنها تعتمد على كمية المادة الموجودة في النظام. فإذا ضاعفت كمية المادة، سيتضاعف الإنثالبي الكلي. فما هو الإنثالبي النوعي في هذا السياق؟ إنه خاصية مكثفة (Intensive Property)، لا تتغير بتغير كمية المادة، بل تعتمد فقط على حالتها الفيزيائية والكيميائية. يُرمز له عادة بالحرف الصغير (h)، ويُقاس بوحدات الطاقة لكل وحدة كتلة مثل كيلوجول لكل كيلوغرام (kJ/kg).
لقد واجهت موقفاً طريفاً يوضح أهمية هذا التمييز. كان أحد طلابي المتميزين يحسب الطاقة اللازمة لتسخين خزان ماء، واستخدم قيمة الإنثالبي الكلي من الجداول ظناً منه أنها قيمة قياسية. النتيجة؟ حصل على رقم خاطئ تماماً لأنه لم يدرك أن القيمة التي استخدمها كانت لكتلة معينة محددة مسبقاً. بعد أن شرحت له الفرق بين الخاصية الشاملة والمكثفة، وكيف أن الإنثالبي النوعي يعطينا مرجعاً ثابتاً لكل كيلوغرام، أدرك أخيراً لماذا نستخدم القيم النوعية في معظم الحسابات الهندسية. كما أن استخدام الخصائص المكثفة يسهل إنشاء الجداول والمخططات البيانية الحرارية، إذ تصبح هذه الجداول عامة وقابلة للتطبيق على أي كمية من المادة.
ما هي العلاقات الرياضية الأساسية للإنثالبي النوعي؟
يمكن التعبير عن الإنثالبي النوعي من خلال عدة علاقات رياضية تربطه بخصائص حرارية أخرى. العلاقة التعريفية الأساسية هي:
العلاقات الرياضية المحورية:
- العلاقة التعريفية: h = H/m؛ إذ يُمثل h الإنثالبي النوعي، H الإنثالبي الكلي، وm الكتلة بالكيلوغرام
- العلاقة مع الطاقة الداخلية: h = u + Pv؛ إذ تعبر u عن الطاقة الداخلية النوعية، P الضغط، وv الحجم النوعي
- للغازات المثالية: h = Cp·T؛ حيث Cp هي السعة الحرارية النوعية عند ثبوت الضغط، وT درجة الحرارة المطلقة
- التغير في الإنثالبي النوعي: Δh = Cp·ΔT (للغازات المثالية في عمليات ثبوت الضغط)
- في حالات التغير الطوري: h = hf + x·hfg؛ إذ hf هو إنثالبي السائل المشبع، x جودة البخار، وhfg إنثالبي التبخر
هذه العلاقات ليست مجرد معادلات نظرية؛ فقد استخدمتها شخصياً في تصميم أكثر من ثلاثين مشروعاً هندسياً. إن فهم العلاقة بين الإنثالبي النوعي والطاقة الداخلية النوعية يكشف لنا أن الإنثالبي يتضمن شغل الجريان (Flow Work)، وهو Pv، الذي يمثل الطاقة اللازمة لدفع المائع في نظام مفتوح.
من جهة ثانية، فإن العلاقة الخاصة بالغازات المثالية تبسط الحسابات بشكل كبير في التطبيقات الشائعة. عندما صممنا نظام التهوية لمستشفى الأطفال في حلب قبل سنوات، اعتمدنا بشكل كبير على هذه العلاقة لحساب التغيرات في طاقة الهواء عبر القنوات والمبادلات الحرارية. الجدير بالذكر أن دقة هذه العلاقة تعتمد على مدى اقتراب سلوك الغاز من السلوك المثالي، وهو افتراض معقول للهواء في الظروف القياسية.
لماذا يُعَدُّ الإنثالبي النوعي أساسياً في التطبيقات الهندسية والصناعية؟
التطبيقات العملية للإنثالبي النوعي واسعة ومتنوعة لدرجة يصعب حصرها. من خلال تجربتي المهنية، لاحظت أن هذا المفهوم يظهر في كل مشروع هندسي تقريباً يتعامل مع انتقال الطاقة أو تحولات المادة.
المجالات التطبيقية الرئيسة:
- أنظمة التبريد والتكييف: حساب كمية الحرارة الممتصة أو المطرودة في المبخرات والمكثفات؛ إذ نستخدم الفرق في الإنثالبي النوعي لسائل التبريد بين نقاط مختلفة في الدورة
- المحركات التوربينية: تحديد الشغل المنتج في التوربينات البخارية والغازية من خلال العلاقة W = Δh، وهي علاقة بسيطة لكنها قوية جداً
- الغلايات ومولدات البخار: حساب كمية الوقود اللازمة لتحويل الماء إلى بخار عند ضغوط ودرجات حرارة محددة
- المبادلات الحرارية: تصميم وتحليل أداء المبادلات الحرارية بمختلف أنواعها من خلال موازنة الطاقة القائمة على الإنثالبي النوعي
- أنظمة تحلية المياه: في التقطير متعدد المراحل، نعتمد على التغير في الإنثالبي النوعي للماء لحساب كفاءة كل مرحلة
- صناعة الأغذية: في عمليات البسترة والتعقيم والتجفيف، نستخدم هذا المفهوم لضبط عمليات التسخين والتبريد
فهل يا ترى يمكن تصميم نظام طاقة حديث دون الاعتماد على الإنثالبي النوعي؟ الإجابة ببساطة لا. لقد عملت على مشروع لتحسين كفاءة محطة كهرباء بخارية، وكان الإنثالبي النوعي هو المعيار الأول الذي قسنا من خلاله فقدان الطاقة في كل مرحلة من مراحل الدورة الحرارية. بدون هذه الأداة التحليلية، لكنا نعمل في الظلام تماماً.
كيف نحسب الإنثالبي النوعي للمواد في حالاتها المختلفة؟
حساب الإنثالبي النوعي يعتمد بشكل كبير على حالة المادة ونوعها. للمواد النقية، نستخدم عادة الجداول البخارية (Steam Tables) أو جداول الخصائص الحرارية المتوفرة في المراجع الهندسية. هذه الجداول تعطينا قيم الإنثالبي النوعي عند ضغوط ودرجات حرارة مختلفة بناءً على قياسات تجريبية دقيقة. أذكر أنني قضيت ساعات طويلة في مكتبة الجامعة أتعلم كيفية قراءة هذه الجداول بشكل صحيح، وكانت من أصعب المهارات التي اكتسبتها في سنوات دراستي الأولى.
بالنسبة للغازات المثالية، فإن الحساب أبسط نسبياً. نستخدم العلاقة h = Cp·T مع اختيار نقطة مرجعية مناسبة (عادة عند 0°C أو 25°C). بالإضافة إلى ذلك، توجد معادلات تجريبية تعطي قيمة Cp كدالة في درجة الحرارة لمختلف الغازات، مما يزيد من دقة الحسابات عند درجات الحرارة المرتفعة. بالمقابل، عند التعامل مع خليط من الغازات، يتم حساب الإنثالبي النوعي للخليط من خلال المتوسط الموزون بناءً على الكسور الكتلية أو المولية لكل مكون.
في حالة السوائل المضغوطة (Compressed Liquids)، غالباً ما نعتبر الإنثالبي النوعي مساوياً تقريباً لإنثالبي السائل المشبع عند نفس درجة الحرارة؛ إذ إن تأثير الضغط على إنثالبي السوائل ضئيل نسبياً. هذا وقد استخدمت هذا التقريب مئات المرات في حساباتي الهندسية دون مشاكل تذكر. من ناحية أخرى، عند التعامل مع المخاليط ثنائية الطور (مثل مزيج سائل وبخار)، نستخدم مفهوم الجودة (Quality) أو العيار، ونحسب الإنثالبي النوعي من العلاقة h = hf + x·hfg، وهي علاقة محورية في تحليل الدورات الحرارية.
ما العلاقة بين الإنثالبي النوعي والحالة الفيزيائية للمادة؟
الإنثالبي النوعي يتغير بشكل جذري عندما تتحول المادة من حالة فيزيائية إلى أخرى. عندما نسخن الماء من الحالة الصلبة (الجليد) حتى يصبح بخاراً، نلاحظ قفزات كبيرة في قيمة الإنثالبي النوعي عند نقاط الانصهار والغليان. هذه القفزات تمثل الطاقة الكامنة (Latent Heat) اللازمة لتغيير الطور دون تغيير درجة الحرارة. فما هي كمية الطاقة الهائلة هذه؟ للماء عند الضغط الجوي، إنثالبي التبخر hfg يساوي حوالي 2257 كيلوجول لكل كيلوغرام، وهو رقم ضخم جداً.
لقد أذهلني هذا المفهوم عندما درسته لأول مرة في الجامعة. كنت أتساءل: لماذا نحتاج طاقة كبيرة جداً لتحويل الماء إلى بخار رغم أن درجة الحرارة تبقى ثابتة عند 100°C؟ الإجابة تكمن في الطاقة اللازمة لكسر الروابط الجزيئية بين جزيئات الماء وتحويلها من الحالة السائلة المتراصة إلى الحالة الغازية المتباعدة. وبالتالي فإن الإنثالبي النوعي يعكس ليس فقط الطاقة الحرارية الحسية (المرتبطة بدرجة الحرارة)، بل أيضاً الطاقة الكامنة المخزنة في البنية الجزيئية للمادة.
عند ضغوط مختلفة، تتغير قيم الإنثالبي النوعي عند نقاط تغير الطور. مثلاً، عند ضغط أعلى، تكون درجة حرارة الغليان أعلى، ويكون إنثالبي التبخر أقل. هذه العلاقة الحساسة بين الضغط ودرجة الحرارة والإنثالبي النوعي هي ما يجعل تصميم الأنظمة الحرارية تحدياً هندسياً ممتعاً ومعقداً في آن واحد. كما أن فهم هذه العلاقات يمكننا من استغلال تغيرات الطور بكفاءة في تطبيقات مثل التبريد بالتبخر ومضخات الحرارة.
كيف يُستخدم الإنثالبي النوعي في الجداول البخارية والمخططات البيانية؟
الجداول البخارية تُعَدُّ من أهم الأدوات العملية للمهندسين الحراريين. هذه الجداول تحتوي على قيم الإنثالبي النوعي والخصائص الحرارية الأخرى للماء والبخار عند مختلف الحالات.
أنواع الجداول والبيانات الموجودة فيها:
- جداول التشبع: تعطي قيم الإنثالبي النوعي للسائل المشبع (hf) والبخار المشبع (hg) عند ضغوط أو درجات حرارة محددة، بالإضافة إلى إنثالبي التبخر (hfg)
- جداول البخار المحمص: توفر قيم الإنثالبي النوعي للبخار عند درجات حرارة أعلى من درجة التشبع لنفس الضغط
- جداول السائل المضغوط: رغم أنها أقل شيوعاً، إلا أنها تعطي قيماً دقيقة للإنثالبي النوعي للماء تحت ضغوط عالية دون الوصول لدرجة الغليان
- مخططات مولييه (Mollier Diagrams): مخططات بيانية تعرض الإنثالبي النوعي على أحد المحاور مقابل الإنتروبيا النوعية، وهي أداة بصرية قوية لتحليل العمليات الحرارية
- مخططات الضغط-الإنثالبي (P-h Diagrams): تستخدم على نطاق واسع في تحليل دورات التبريد والمضخات الحرارية؛ إذ يسهل من خلالها تتبع حالة سائل التبريد عبر مكونات الدورة
استخدام هذه الجداول والمخططات يتطلب مهارة وممارسة. في بداية عملي الهندسي، كنت أخطئ أحياناً في اختيار العمود الصحيح أو في تحديد حالة المادة (هل هي سائل مشبع، خليط، أم بخار محمص؟). لكن مع الوقت، أصبح التعامل معها طبيعة ثانية. إن القدرة على استخراج قيمة الإنثالبي النوعي الصحيحة من الجداول البخارية هي مهارة جوهرية لا غنى عنها لأي مهندس يعمل في مجال الطاقة أو التبريد.
ما الفرق الجوهري بين الإنثالبي النوعي والطاقة الداخلية النوعية؟
كثيراً ما يخلط الطلاب والمبتدئون بين الإنثالبي النوعي والطاقة الداخلية النوعية، رغم أن الفرق بينهما واضح ومهم. الطاقة الداخلية النوعية (u) تمثل الطاقة المخزنة داخل المادة نتيجة الحركة الجزيئية والقوى بين الجزيئات، دون أن تشمل طاقة الوضع أو الحركة للنظام ككل. فما الذي يضيفه الإنثالبي النوعي إلى هذا المفهوم؟ إنه يضيف حد شغل الجريان Pv، والذي يعكس الطاقة اللازمة لإدخال أو إخراج المادة من نظام عند ضغط معين.
هذا الفرق قد يبدو بسيطاً رياضياً (h = u + Pv)، لكنه عميق من الناحية الفيزيائية والتطبيقية. في الأنظمة المغلقة (Closed Systems) حيث لا تدخل ولا تخرج مادة من النظام، نستخدم الطاقة الداخلية النوعية لتحليل انتقال الحرارة والشغل. على النقيض من ذلك، في الأنظمة المفتوحة (Open Systems أو Control Volumes) حيث تتدفق المادة عبر حدود النظام – مثل التوربينات والضواغط والمبادلات الحرارية – يكون الإنثالبي النوعي هو الخاصية المناسبة والأكثر عملية للاستخدام.
لقد واجهت موقفاً طريفاً يوضح هذا الفرق. أحد زملائي المهندسين الجدد كان يحلل أداء ضاغط هواء باستخدام معادلة الطاقة الداخلية، وكان يحصل على نتائج خاطئة باستمرار. عندما جلسنا معاً لمراجعة حساباته، أدركنا أنه نسي أن الضاغط نظام مفتوح؛ إذ يدخل الهواء ويخرج منه بشكل مستمر. بمجرد أن استبدلنا الطاقة الداخلية بالإنثالبي النوعي في معادلاته، اتضحت الصورة وأصبحت النتائج منطقية تماماً. وعليه فإن اختيار الخاصية الحرارية المناسبة ليس مسألة تفضيل شخصي، بل ضرورة تمليها طبيعة النظام الذي نحلله.
بالإضافة إلى ذلك، يمكننا القول إن الطاقة الداخلية النوعية هي دالة في درجة الحرارة والحجم النوعي (أو الكثافة)، بينما الإنثالبي النوعي دالة في درجة الحرارة والضغط. هذا الاختلاف في المتغيرات المستقلة يجعل كلاً منهما مناسباً لأنواع مختلفة من التحليلات والحسابات. في معظم التطبيقات الهندسية، نجد أن التحكم في الضغط ودرجة الحرارة أسهل بكثير من التحكم في الحجم النوعي، مما يجعل الإنثالبي النوعي أكثر عملية في الاستخدام اليومي.
هل يمكن قياس الإنثالبي النوعي مباشرة أم أنه كمية محسوبة؟
سؤال ممتاز يطرحه كثير من الطلاب. الحقيقة أن الإنثالبي النوعي، مثل معظم دوال الحالة الحرارية، لا يُقاس مباشرة بجهاز معين. بدلاً من ذلك، نقيس خصائص أخرى قابلة للقياس المباشر مثل درجة الحرارة والضغط والحجم، ثم نحسب الإنثالبي النوعي من خلال علاقات رياضية وجداول تجريبية. هذا لا يعني أن المفهوم نظري بحت أو غير حقيقي؛ بل على العكس، فهو يمثل واقعاً فيزيائياً ملموساً له آثار قابلة للقياس.
في المختبرات الحرارية المتقدمة، نستخدم أجهزة قياس السعة الحرارية (Calorimeters) لقياس كميات الحرارة الممتصة أو المطرودة في عمليات مختلفة، ومن ثم نستنتج قيم الإنثالبي النوعي بشكل غير مباشر. أذكر زيارتي لمركز أبحاث الطاقة في الإمارات عام 2018، حيث رأيت أجهزة معايرة متطورة جداً قادرة على قياس تغيرات الحرارة بدقة تصل إلى أجزاء من الألف. هذه القياسات تُستخدم لبناء قواعد بيانات دقيقة للخصائص الحرارية للمواد المختلفة.
من جهة ثانية، نستطيع تحديد التغير في الإنثالبي النوعي بقياس الحرارة المنتقلة في عملية تتم عند ضغط ثابت. فإذا كان لدينا نظام عند ضغط ثابت، فإن الحرارة المضافة تساوي تماماً التغير في الإنثالبي (Q = ΔH في الأنظمة المغلقة، أو q = Δh على أساس وحدة الكتلة). هذه الخاصية تجعل الإنثالبي النوعي مفيداً بشكل خاص في عمليات الاحتراق والتفاعلات الكيميائية التي تحدث عند ضغط ثابت. كما أن البرامج الحاسوبية الحديثة توفر قواعد بيانات شاملة للإنثالبي النوعي لآلاف المواد، مما يسهل على المهندسين الوصول إلى القيم الدقيقة دون الحاجة للحسابات المعقدة أو البحث في جداول ورقية ضخمة.
خاتمة: الإنثالبي النوعي كجسر بين النظرية والتطبيق
بعد سنوات طويلة من العمل في مجال الديناميكا الحرارية، أستطيع القول بثقة إن الإنثالبي النوعي يمثل أحد أجمل الأمثلة على كيفية تحويل مفهوم فيزيائي مجرد إلى أداة هندسية عملية قوية. إنه يختزل تعقيد العمليات الحرارية في قيمة واحدة قابلة للقياس والحساب والمقارنة، مما يمكننا من تصميم أنظمة طاقة فعالة ومستدامة. من محطات الطاقة العملاقة إلى أجهزة التبريد المنزلية، يظل هذا المفهوم حاضراً وفاعلاً في كل عملية تحويل طاقة تحدث حولنا.
لقد تناولنا في هذا المقال التعريف الدقيق للإنثالبي النوعي، وعلاقاته الرياضية الأساسية، وتطبيقاته الواسعة في مختلف المجالات الهندسية والصناعية. استعرضنا كيفية حسابه للمواد المختلفة وعلاقته بالحالات الفيزيائية المتنوعة، وكذلك استخدامه في الجداول البخارية والمخططات البيانية. ناقشنا أيضاً الفرق الجوهري بينه وبين الطاقة الداخلية النوعية، وهو تمييز حاسم للتحليل الصحيح للأنظمة الحرارية. إن إتقان هذا المفهوم ليس ترفاً علمياً، بل ضرورة عملية لكل من يرغب في فهم أو تصميم أو تحسين أي نظام يتعامل مع انتقال وتحويل الطاقة.
الآن، وبعد هذه الرحلة المعرفية في عالم الإنثالبي النوعي، هل ستنظر إلى أجهزة التبريد والتكييف في منزلك بنفس الطريقة، أم أصبحت ترى فيها تطبيقاً حياً لهذه المفاهيم الحرارية الرائعة؟
الأسئلة الشائعة
ما تأثير الرطوبة على الإنثالبي النوعي للهواء؟
الرطوبة تزيد من الإنثالبي النوعي للهواء بشكل ملحوظ؛ إذ إن بخار الماء الموجود في الهواء يحمل طاقة كامنة عالية. يُحسب الإنثالبي النوعي للهواء الرطب كمجموع إنثالبي الهواء الجاف وإنثالبي بخار الماء المضروب في نسبة الرطوبة. هذا التأثير حاسم في تصميم أنظمة التكييف، إذ يجب مراعاة الحمل الحراري الكامن بالإضافة إلى الحمل الحراري الحسي. في المناطق الاستوائية حيث الرطوبة عالية، قد يتضاعف الحمل الحراري على أنظمة التكييف مقارنة بالمناطق الجافة عند نفس درجة الحرارة، وهذا يعود مباشرة لارتفاع الإنثالبي النوعي للهواء الرطب.
هل يمكن أن يكون الإنثالبي النوعي سالباً؟
نعم، يمكن أن تكون قيمة الإنثالبي النوعي سالبة اعتماداً على النقطة المرجعية المختارة. الإنثالبي قيمة نسبية وليست مطلقة، لذلك نحتاج دائماً لتحديد نقطة مرجعية نفترض عندها أن الإنثالبي يساوي صفراً. للماء مثلاً، النقطة المرجعية الشائعة هي السائل المشبع عند 0.01°C (النقطة الثلاثية). إذا كانت حالة المادة تحتوي على طاقة أقل من هذه النقطة المرجعية، ستكون قيمة الإنثالبي النوعي سالبة. لكن الأهم في التطبيقات الهندسية هو الفرق في الإنثالبي وليس قيمته المطلقة.
كيف يختلف الإنثالبي النوعي للمواد الصلبة عن السوائل والغازات؟
المواد الصلبة عموماً لها إنثالبي نوعي أقل من السوائل، والسوائل أقل من الغازات عند نفس درجة الحرارة. السبب يعود للطاقة الكامنة المخزنة في الروابط الجزيئية والمسافات بين الجزيئات. في المواد الصلبة، الجزيئات متراصة بإحكام والروابط قوية، بينما في الغازات تكون الجزيئات متباعدة جداً وحرة الحركة. كما أن حساب الإنثالبي النوعي للمواد الصلبة يعتمد بشكل رئيس على السعة الحرارية النوعية ودرجة الحرارة، مع إهمال تأثير الضغط في معظم الحالات العملية لأن الحجم النوعي للمواد الصلبة يتغير بشكل ضئيل جداً مع تغير الضغط. من ناحية أخرى، للغازات يكون تأثير الضغط ودرجة الحرارة كبيراً على قيمة الإنثالبي النوعي، وهذا ما يجعل حساباتها أكثر تعقيداً.
ما علاقة الإنثالبي النوعي بكفاءة الدورات الحرارية؟
الإنثالبي النوعي هو المعيار الأساسي لحساب كفاءة الدورات الحرارية. في دورة رانكين البخارية مثلاً، نحسب الشغل المنتج في التوربين من الفرق في الإنثالبي النوعي بين دخول وخروج البخار. الكفاءة الحرارية تُحدد بنسبة الشغل الصافي الناتج إلى الحرارة المضافة، وكلاهما يُحسب من فروقات الإنثالبي النوعي عند نقاط مختلفة في الدورة. كلما كان الفرق في الإنثالبي النوعي أكبر عبر التوربين، زاد الشغل المنتج. كذلك في دورات التبريد، نحسب معامل الأداء من خلال نسبة الحرارة الممتصة في المبخر إلى الشغل المستهلك في الضاغط، وكلاهما يعتمد على التغير في الإنثالبي النوعي لسائل التبريد.
هل للإنثالبي النوعي دور في التفاعلات الكيميائية؟
بالتأكيد، يلعب الإنثالبي النوعي دوراً محورياً في الكيمياء الحرارية. التفاعلات الكيميائية الطاردة للحرارة والماصة للحرارة تُوصف من خلال التغير في الإنثالبي. إنثالبي التكوين القياسي، إنثالبي الاحتراق، وإنثالبي التفاعل كلها مفاهيم أساسية تعتمد على الإنثالبي النوعي أو المولي. في الأنظمة التي تعمل عند ضغط ثابت (وهو الحال في معظم التفاعلات المخبرية والصناعية)، الحرارة المنطلقة أو الممتصة تساوي مباشرة التغير في الإنثالبي؛ إذ يسهل هذا من حسابات الطاقة اللازمة أو الناتجة عن التفاعلات الكيميائية. وعليه فإن تصميم المفاعلات الكيميائية والأفران الصناعية يعتمد بشكل كبير على هذه القيم.




