جودة المياه: كيف نقيّم صحة أنهارنا وبحيراتنا الطبيعية؟
ما هي المعايير العلمية التي تكشف لنا حقيقة سلامة مواردنا المائية؟

بقلم: د. أحمد الهاشمي، خبير هيدرولوجيا متخصص في تقييم جودة المياه
هل نظرت يوماً إلى مياه النهر المجاور وتساءلت عن مدى نقائها الحقيقي؟ إن معرفة جودة المياه ليست حكراً على المختصين، بل هي معرفة أساسية تمس حياتنا اليومية وصحة أجيالنا القادمة.
المقدمة
عندما أقف على ضفاف نهر صافٍ أو أتأمل في مياه بحيرة زرقاء، أتذكر دائماً أن المظهر الخارجي قد يكون خادعاً. لقد علمتني عقودي الطويلة في دراسة الأنظمة المائية أن القصة الحقيقية لصحة المياه تختبئ في تفاصيل لا تراها العين المجردة. وإن كنت تظن أن تقييم جودة المياه أمر معقد يحتاج إلى مختبرات متطورة فقط، فدعني أطمئنك بأن الأمر أبسط مما تتصور، وسأشاركك اليوم خلاصة خبرتي في هذا المجال الحيوي.
من خلال خبرتي الممتدة لعقدين في الهيدرولوجيا (Hydrology)، رأيت كيف تحولت أنهار كانت تُعَدُّ ميتة إلى أنظمة بيئية نابضة بالحياة، وكذلك شهدت العكس للأسف. الجدير بالذكر أن فهم أساسيات جودة المياه يمنحك القدرة على المساهمة الفعلية في حماية هذا المورد الثمين.
ما هي جودة المياه، ولماذا يجب أن نهتم بها؟
جودة المياه (Water Quality) ببساطة هي مقياس لمدى ملاءمة المياه للاستخدامات المختلفة، سواء للشرب أو الري أو الحياة المائية. وإن كنت تتساءل عن أهمية هذا الموضوع، فتخيل معي للحظة أن النهر الذي يمر بقريتك أو مدينتك هو شريان الحياة لآلاف الكائنات الحية، بما فيها نحن البشر.
لقد رأيت في مسيرتي المهنية كيف أن تدهور جودة المياه في نظام مائي واحد يمكن أن يؤثر على:
- صحة الأهالي الذين يعتمدون على هذه المياه
- الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي
- التنوع البيولوجي والحياة البرية
- الأنشطة الاقتصادية كالسياحة وصيد الأسماك
الخطأ الأكثر شيوعاً الذي أرى غير المختصين يرتكبونه هو الاعتماد على المظهر البصري فقط؛ إذ أن المياه الصافية ليست بالضرورة آمنة، والمياه العكرة قليلاً ليست بالضرورة ملوثة. فما هي إذاً المعايير الحقيقية؟ الإجابة تكمن في فهم المؤشرات العلمية التي سأشرحها لك في القسم التالي.
كيف يقيّم الخبراء جودة المياه في الأنظمة الطبيعية؟
من تجربتي الطويلة في تقييم المسطحات المائية، تعلمت أن هناك ثلاث فئات رئيسة من المؤشرات التي نعتمد عليها. دعني أشاركك هذه المعرفة بطريقة مبسطة:
المؤشرات الفيزيائية (Physical Parameters)
- درجة الحرارة: كما أن جسمك له درجة حرارة طبيعية، كذلك للمياه. إن ارتفاع درجة الحرارة بشكل غير طبيعي يقلل من قدرة المياه على حمل الأكسجين، مما يخنق الحياة المائية.
- العكارة (Turbidity): هل لاحظت يوماً أن المياه تصبح عكرة بعد المطر؟ هذا مؤشر مهم نقيسه بوحدات NTU. من جهة ثانية، العكارة المفرطة تمنع وصول ضوء الشمس للنباتات المائية.
- المواد الصلبة العالقة: وهي الجزيئات الدقيقة المعلقة في المياه. ما نجح معي شخصياً في تبسيط هذه الفكرة هو تشبيهها بالغبار في الهواء.
المؤشرات الكيميائية (Chemical Parameters)
- درجة الحموضة (pH): تتراوح القيمة المثالية بين 6.5 و 8.5. وإن انحرافها عن هذا المدى يشير إلى مشكلة خطيرة. هل تعلم أن الأمطار الحمضية يمكن أن تخفض pH البحيرات إلى مستويات قاتلة؟
- الأكسجين المذاب (Dissolved Oxygen – DO): يُعَدُّ هذا المؤشر نبض الحياة في المياه. انخفاضه دون 5 ملغ/لتر يُعَدُّ إنذاراً أحمر. بالإضافة إلى ذلك، فإن مستويات DO تتأثر بدرجة الحرارة والنشاط البيولوجي.
- المغذيات (النترات والفوسفات): بينما تُعَدُّ ضرورية للحياة المائية، فإن زيادتها تسبب ظاهرة الإثراء الغذائي (Eutrophication). لقد شهدت بحيرات تحولت إلى مستنقعات خضراء بسبب هذه المشكلة.
المؤشرات البيولوجية (Biological Indicators)
- البكتيريا القولونية (Coliform Bacteria): مؤشر على التلوث بمياه الصرف الصحي. وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) تضع معايير صارمة لهذا المؤشر.
- اللافقاريات القاعية: هذه الكائنات الصغيرة تُعَدُّ بمثابة كناري المنجم للأنظمة المائية. وجود أنواع معينة أو غيابها يخبرنا الكثير عن صحة النظام.
- الطحالب: على النقيض من الاعتقاد الشائع، ليست كل الطحالب ضارة. ولكن، ازدهارها المفرط يُعَدُّ علامة على خلل في التوازن البيئي.
إذاً كيف نقيس هذه المؤشرات عملياً؟ برنامج جودة المياه بهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) يوفر بروتوكولات مفصلة وأدوات يمكن للمبتدئين استخدامها.
ما هي أكبر التهديدات لجودة مياهنا، وكيف يمكننا المساهمة في حمايتها؟
من واقع خبرتي الميدانية، رأيت أن معظم مشاكل جودة المياه تنبع من أنشطة بشرية يمكن تجنبها أو التحكم فيها. دعني أشاركك أبرز هذه التهديدات وكيفية مواجهتها:
التلوث من المصادر النقطية وغير النقطية
المصادر النقطية مثل مصبات المصانع ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي يمكن رصدها ومراقبتها بسهولة. من ناحية أخرى، المصادر غير النقطية كالجريان السطحي من الأراضي الزراعية تُعَدُّ التحدي الأكبر.
فقد لاحظت أن الجريان السطحي الزراعي المحمل بالأسمدة والمبيدات يُعَدُّ المسؤول الأول عن تدهور جودة المياه في معظم الأنظمة التي درستها. وعليه فإن تطبيق ممارسات زراعية مستمرة يُعَدُّ أمراً حيوياً.
التغيرات المناخية وتأثيرها
إن ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط الأمطار يؤثران بشكل مباشر على جودة المياه. بالمقابل، يمكننا التكيف من خلال:
- حماية المناطق الرطبة التي تعمل كمرشحات طبيعية
- زيادة الغطاء النباتي على ضفاف الأنهار
- تحسين إدارة مياه الأمطار في المناطق الحضرية
دورك الشخصي في الحماية
برأيكم ماذا يمكن للفرد العادي أن يفعل؟ الإجابة هي: الكثير! من خبرتي في العمل مع الأهالي، وجدت أن هذه الخطوات البسيطة لها تأثير كبير:
- قلل استخدام الأسمدة والمبيدات في حديقتك المنزلية
- تخلص من الزيوت والكيماويات بطريقة آمنة، وليس في المصارف
- وفر في استخدام المياه لتقليل الضغط على محطات المعالجة
- شارك في حملات تنظيف المسطحات المائية المحلية
- راقب وأبلغ عن أي تلوث مشبوه تلاحظه
هذا وقد أثبتت التجارب أن المشاركة الاجتماعية في حماية الموارد المائية تحقق نتائج ملموسة. الجدير بالذكر أن إرشادات جودة مياه الشرب من منظمة الصحة العالمية (WHO) توفر معايير عالمية يمكن للمجتمعات المحلية الاسترشاد بها.
الخاتمة
لقد تعلمنا اليوم أن جودة المياه ليست مجرد مصطلح علمي معقد، بل هي مفهوم حيوي يمس حياتنا اليومية بشكل مباشر. وإن فهم المؤشرات الأساسية – الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية – يمنحنا القدرة على تقييم صحة أنظمتنا المائية والمساهمة في حمايتها.
من خلال رحلتي الطويلة في هذا المجال، أؤكد لكم أن كل قطرة ماء نحميها اليوم هي استثمار في مستقبل أجيالنا القادمة. كما أن المياه النظيفة ليست مجرد مورد، بل هي حق أساسي وأمانة يجب أن نحافظ عليها.
تذكروا دائماً: المياه الصحية تعني حياة صحية، ومجتمعات مزدهرة، وأنظمة بيئية متوازنة. وبالتالي، فإن دوركم في هذه المعادلة ليس ثانوياً بل محورياً.
بعد أن تعرفت على أسس تقييم جودة المياه ودورها في حياتنا، ما هي أول خطوة ستتخذها لحماية المصدر المائي الأقرب إليك؟
الأسئلة الشائعة
هل يمكنني فحص جودة المياه في منزلي بأدوات بسيطة؟
نعم، بالتأكيد! توجد أطقم اختبار منزلية ميسورة التكلفة تقيس المؤشرات الأساسية مثل pH والكلور والنترات. ومما يجدر ذكره أن هذه الأطقم تعطي مؤشرات أولية جيدة، لكن للحصول على تحليل شامل، يُنصح بإرسال عينات للمختبرات المعتمدة. انظر إلى الأطقم المتاحة في الأسواق واختر تلك المعتمدة من جهات موثوقة.
ما الفرق بين الماء العسر والماء اليسر وأيهما أفضل؟
الماء العسر (Hard Water) يحتوي على تراكيز عالية من الكالسيوم والمغنيسيوم، بينما الماء اليسر (Soft Water) يحتوي على كميات قليلة منها. وإن كان الماء العسر قد يسبب ترسبات في الأنابيب، فإنه ليس ضاراً صحياً بل قد يكون مفيداً لاحتوائه على معادن مهمة. على النقيض من ذلك، الماء اليسر جداً قد يكون أكثر قدرة على إذابة المعادن من الأنابيب، مما قد يشكل خطراً صحياً في بعض الحالات.
هل المياه الصافية تُعَدُّ دائماً آمنة للشرب؟
كلا، وهذا من أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعاً! فقد تحتوي المياه الصافية تماماً على ملوثات كيميائية أو بيولوجية غير مرئية. من جهة ثانية، بعض المياه العكرة قليلاً قد تكون آمنة تماماً. لذلك، يجب الاعتماد على التحليل العلمي وليس المظهر البصري. إرشادات منظمة الصحة العالمية لجودة مياه الشرب توضح أن المعايير البصرية وحدها غير كافية لتحديد سلامة المياه، ويجب إجراء فحوصات مخبرية شاملة للتأكد من الجودة.